أما مرلوبوتي، فينظر إلى العلاقة بين اللغة و الفكر من زاوية أخرى: علاقة اللغة بكل من الفكر و الكلام، فلا وجود لفكر قبل اللغة، إنهما متزامنان ففي الوقت الذي يصنع فيه الفكر اللغة فإن اللغة تحتوي معاني ذلك الفكر و ينتقد الموقف الديكارتي الذي يفصل الفكر عن اللغة، فاللغة في نظره لا يمكن أن تكون أداة للتعبير عن الفكر و ما يدل على ذلك هو أن التفكير في صمت هو في الواقع ضجيج من الكلمات، فالتفكير الداخلي هو لغة داخلية.
إن الوجه الآخر لإشكالية العلاقة بين اللغة و الفكر هي إشكالية التواصل بمعنى هل تعبر اللغة عن الأفكار بشكل شفاف و واضح، أم أن اللغة مجرد وسيلة للإخفاء و الكتمان ؟.
يعتبر جاكبسون أن كل عملية تواصلية أو حدث كلامي يتكون من 6 عناصر، هناك السيـاق و يشير عـادة إلى الظـروف و المناسبة التي يتم فيها هذا الحدث الكـلامي، المرسل و المرسل إليه و بينهما رسالة أي المعلومات المتبادلة، الاتصال أي عملية التوصل المباشر بتلك المعلومات المرسلة بطريقة شفوية أو كتابية.
و أخيرا ما نسميه بالسند و هو ما يمكن من فك رموز الرسالة.
إذا توفرت هذه العناصر الستة المكونة للعملية التواصلية، فإن جاكبسون يعتبر أن اللغة تقوم بعملية التواصل بشكل شفاف و واضح لكن هل فعلا تكون اللغة دائما شفافة و واضحة أم أنها مجرد وسيلة للإخفاء و الكتمان.
إن هـذا ما يوضحه "ألوليفي دوكو" من خـلال النص الذي سنتناوله "اللغة بين الكشف و الإخفاء".
تحليل نص "اللغة بين الكشف و الإخفاء" ص 21
في هذا النص ينتقد "ألوليفي دوكو" فكرة التواصل كما حددتها اللسانيات في بداية نشأتها مع دي سوسير، و إذا كان هذا الأخير يعتبر أن التواصل يتحدد في نقل المعلومة أو الخبر من طرف لآخر فإن دوكرو يعتبر هذا التعبير ضيقا جدا و لا يعطي للتواصل كل معانيه.
إن كل تواصل قابل لأن يتخذ دلالات متنوعة خصوصا و أنه يتم داخـل مجتمع معين و بما أن العلاقات الاجتماعية علاقات متعددة و متنوعة فإن عملية التواصل تتخذ أيضا نفس الدلالة و لهذا فإن اللغة لا تتخذ فقط كوسيلة للتواصل، إنها تحدد الإطار المرجعي لهذا التواصل. ذلك أنه داخل مجتمع توجد مجموعة من المحرمات الشيء الذي يجعل عملية التواصل بمثابة قواعد لعب يومية تحدد ماهو مباح و ماهو ممنوع هذا بالإضافة إلى الطقوس التحريمية التي يتضمنها كل نظام لغوي الشيء الذي يفرض على الأراد أو الذوات المتكلمة أن تنشأ إلى التعبير الضمني الذي ينفي المسؤولية عن الذات المتكلمة هذا بالإضافة إلى كون هذه الأخيرة تلجأ إلى تفادي كل نقد أو اعتراض يمكن أن يعرضها للسخرية أو المحاسبة من قبل الآخرين، و هذا ما يسميه دوكرو بآليتي الإخفاء و الإضمار.
من خلال ما سبق تناولنا في هذا الدرس كون اللغة ظاهرة خاصة بالإنسان ذلك أن هذا الأخير هو الكائن الوحيد القادر على التفكير و بالتالي فهو في حاجة إلى إبداع علامات و رموز لسانية يستطيع من خلالها عن فكره و هي قابلة للتنوع و الاختلاف و التعدد باختلاف المجتمعات البشرية، كما تنـاولنا علاقة العـلامات و الرموز اللسانية بالواقع من خلال البحث في العـلاقة بين الكلمـات و الأشياء و الأسماء و المسميات و انتهينا إلى أن هناك موقفين من هذه العلاقة، الموقف الأفلاطوني نسبة إلى أفلاطون الذي يعتبر العلاقة بينهما طبيعية في حين أن موقف الفلسفة الحديثة و اللسانيات المعاصرة تعتبر أن العلاقة بينهما علاقة اعتباطية، أما بخصوص العلاقة بين اللغة و الفكر فقد تطرقنا إلى موقفين:
موقف الفلسفة الكلاسيكية التي يمثلها كل من ديكارت و برجسون اللذين اعتبرا أن العلاقة بينهما هي علاقة انفصال ذلك أن الفكر من طبيعة روحية لا مادية في حين أن اللغة من طبيعة مـادية و على هذا الأساس اعتبر ديكارت أن اللغة مجرد أداة للتعبير عن الفكر في حين اعتبرها برجسون أداة عاجزة عن الإحاطة بكل موضوعات الفكر و لذلك اقترح أن يشمل مفهوم اللغة الحدس باعتباره لغة خاصة غير قابلة للنقل.
ضد هذا الموقف نجد موقف اللسـانيات الحديثة و الفلسفة المعـاصرة التي اعتبرت أن اللغة و الفكر متداخلان بحيث لا يمكن الفصل بينهما فلا وجود لفكر بدون لغة و لا وجود للغة خالية من الفكر و الدلالة.
أما الوجه الآخر لإشكالية العلاقة بين اللغة و الفكر فهي إشكالية التواصل، إن هذه الإشكالية نـابعة أساسا من تحديد معنى التـواصل فحينما يتم التركيز على التـواصل باعتبـاره نقلا للأفكـار و المعلومات كما حدده جاكبسون فإن اللغة تقوم بوظيفة التواصل بشكل شفاف و واضح كلما توفرت العوامل المكونة لعملية التواصل، لكن حينما يتخذ التواصل أبعادا متعـددة تصبح اللغة إطـارا محددا لهذه العملية التواصلية، و من ثم تصبح اللغة أداة للإخفـاء و الكتمان.