إن المدرسة السلوكية و الاتجاه السلوكي اعتبرت الإنسان مجرد نظام طبيعي محكوم بالقوانين الطبيعية المشتركة بين كل الظواهر، فالمدرسة السلوكية إذن لا تعطي أية أهمية للشعور و اللاشعمر في تحديد الشخصية بينما ستحاول مدرسة التحليل النفسي إعادة النظر في مختلف التصورات التي كانت سائدة حول الشخصية و ستعمل على تأسيس تصور جديد لها، إنها ستنظر إليها كبنية دينامية معقدة يتعين النظر إليها في كليتها و تفاعلها، فما هي الأسس التي يقوم عليها تصور مدرسة التحليل النفسي ؟
إن الشخصية في نظر فرويد تتكون من ثلاث مقومات أساسية تتفاعل فيما بينها لتعطي لها طابعا خاصا فما هي هذه المقومات ؟ هناك الهو [ لقد أعادت مدرسة التحليل النفسي للجسم الذي لم يعره ديكارت أي اهتمام في تحديد الشخصية، كما سيعيد الاعتبار كذلك للأحلام و الحالات اللاشعورية التي استبعدتها المدرسة الشعوري، إن أول المقومات التي تتكون منها شخصيتنا هو [ الهو ] الذي يتضمن كل الميول و الغرائز الفطرية و الموروثة و هو لا يخضع إلا لمبدأ واحد؛ الحصول على اللذة و تجنب الألم، يعتبر فرويد أن هذه الميول و الرغبات و الغرائز تتمحور كلها حول النوعة الجنسية أو ما يسمى بالطاقة "الليبدية" التي تعبر عن نفسها بطرق لا واعية خلال معظم مراحل النمو الجنسي يمر بها المولود، و هذه المرحلة هي المرحلة الفمية ذلك الفم يشكل وسيلة الاتصال الأساسية مع العالم الخارجي خلال المراحل الأولى من حياة المولود، لهذا يعتبر فرويد أنه في الوقت الذي يشبع فيه حاجته إلى الطعام [ الهو ] فهو في نفس الوقت طريقة لا واعية تليها بعد الفطام المرحلة الشرجية تليها المرحلة القضيبية، و بعد ذلك يدخل مرحلة الكمون التي يختفي فيها الإشباع اللاواعي ليحل محله الفضول المعرفي ذلك أن عالم المولود يتسع الكن في هذه المرحلة 5 أو 6 سنوات يتعرض جنسه غما لعقدة أوديب أو عقدة إلكترا، فالطفل يرى في أبيه منافسا له في أمه و البنت منافسة لهـا فـي أبيهـا، و غالبا ما يتم الخروج من هذه المرحلة بسلام نظرا لطقوس التحريم في كل المجتمعات.
إلا أن الكثير من الميول و الرغبات و الغرائز لا تجد طريقها إلى الإشباع و التحقق ذلك أنها تتكسر على صخرة الواقع، فيبدأ في التشكل نوع من الوعي بأن هناك ما يمكن إشباعه و ما لا يمكن إشباعه، فيبدأ في التشكل ما يعرف بالأنا الذي هو جزء من الهو انفصل عنه تحت تأثير الواقع، إن الأنا يمثل ذلك الجانب من شخصيتنا الذي نحيى به مع الآخرين و يتكون من أفعال و سلوكات إرداية واعية و اخرى لا شعورية استطاعت أن تتكيف مع الواقع و تتلاءم معه بكيفيـة مقبـولة اجتمـاعية، و تحت تأثير عملية التنشئة الاجتماعية و ما يكتسبه البعض خلال عملية التربية و التلقين و التعلم يتشبع الأنا بالقيم الأخلاقية و الدينية فينفصل جزء من الأنا ليشكل ما يسميه فرويد بالأنا الأعلى، إن الأنا الأعلى يشكل مجموع القيم و العادات و التقاليد التي اكتسبها الفرد فأصبحت جزءا من كيانه الداخلي و تمثل مرجعا لم يمكن الإقدام عليه أو الإحجام عنه إلا أن فرويد يعتبر أن الشخصية الإنسانية تتحدد من خلال العلاقة بين هذه المكونات الثلاث، فما طبيعة العلاقة بين هذه المكونات ؟
يعتبر فرويد أن العلاقة بينها هي التي تحدد طبيعة الشخصية و هل هي شخصية سوية أم شخصية مرضية. إن الأنا يتعرض لضغط قوتين جبارتين فمن جهة هناك محتويات اللاشعور التي تطمح إلى الإشباع و التحقق و من جهى أخرى هناك متطلبات الأنا الأعلى، على الأنا أن يقوم بدور الرقيب أو الحارس اليقظ الذي عليه ألا يسمح بالتحقق إلا لما هو مقبـول اجتمـاعيا أمـا الـرغبات و الميول و الغرائز التي تتنافى مع قيم مجتمع فعليه أن يلقيخا في الأسر لكنها تتحين كل فرصة لكي تعبر عن نفسها بشكل سافر و جلي، و أفضل مناسبة لذلك هي عندما تتراخى سلطة الرقابة خلال النوم و كذلك في حالات فلتات اللسان أو زلات القلم.
كلما كان الأعلى قويا و استطاع أن يوازن بين كل من اللاشعور و الأنا الأعلى شكل ذلك شخصية سوية، و كلما طغى أحدهما على الأنا أنتج ذلك شخصية مرضية.
إذا كانت السيكولوجيا قد ركزت على النظام النفسي بتحديد الشخصية، فإن الخطاب السوسيولوجي قد ركزت على النظام اجتماعي لتؤسس تصورها للشخصية على اعتبار أنها بناء نظري يقوم على محددات اجتماعية و سلطة المؤسسات، ذلك أننا نجد اهتماما كبيرا بالمصادر الاجتماعية للشخصية كالتأكيد على الدور الاجتماعية مع الاهتمام القليل بالظروف البيولوجية الفطرية التي أكدها فرويد.
إن التصور الاجتماعي للشخصية ينطلق من التفاعلات بين الناس و آثار هذه التفاعلات على نمو الشخص، إن العلاقات بين الأفراد تحدد الأدوار المنظمة للثقافة ذلك أن المؤسسات الاجتماعية تصف كيف يجب أن يسلك الشخص و كيف ينظر إلى ذاته و إلى علاقته بالآخرين و ذلك بهدف دمجه في حياة المجتمع و نضاله حتى يحافظ على الأخير و على توازنه و استمراره، إن الإنسان كائن اجتماعي بالضرورة و هكذا فكل مجتمع يطبع سلوكات أفراده و مواقفهم و عاداتهم و طرق تفكيرهم بطابعه الخص و ذلك بواسطة التربية و التنشئة الاجتماعية، فهذه الأخيرة تكسب الأفراد نماذج من القيم و التصورات و الاستجابات تساير متطلبات الحضارة التي ينتمي إليها كل فرد و هكذا يستوعب الشخص عناصر الثقافة الاجتماعية لتصبح جزءا من محددات شخصيته كما تحقق تكيفه مع محيطه الاجتماعي و تحدد انتماءه إليه بتوفير شروط تكيفه البيولوجي و النفسي و الذهني.
إن الشخصية لها تاريخها الخاص لأنها تعيش، تنمو و تتطور في ظروف تـاريخية ملمـوسة و محددة، و انطلاقا من ذلك يمكن التساؤل عما إذا كان كل مجتمع يمارس تأثيره على الأفراد بنفس الكيفية و الفعالية بحيث يشكل كل ذلك شخصية نمطية، أم أن نتائج فعل المجتمع تنتهي إلى أنماط سلوكية مختلفة ؟
إن المجتمع لا يتحدد فقط بمجموع الأفراد المنتسبين إليه بل يتحدد من خلال شبكة العلاقات التي يقيمها هؤلاء الأفراد فيما بينهم و ما يشتركون فيه من نمط عيش يعبر عن ثقـافة ذلك المجتمـع و التي تخضع لسيرورة مرتفعة بتطور شروطه المادية، و هكذا يمكن القول إن كل مجتمع يتضمن حسب تصور "رالف لينتون" على الأقل شخصيتين؛ إحداهما أساسية و الأخرى وظيفية:
فالشخصية الأساسية مجردة و تتمثل في كل ما هو عام و مشترك بين أفراد المجتمع كأنماط السلوك و طرق الاستجابة و كذلك القيم المشتركة، إن هذه الشخصية الأساسية هي التي تمكن من التمييز بين مجتمع و آخر.
أما الشخصية الوظيفية فترتبط بالوضع و الدور، إنها شخصية مادية محسوسة ذات طابع متعدد، فالحياة الاجتماعية يمكن تشبيهها بخشبة المسرح تتناوب عليها الفرق المسرحية لكن كل فرد يقوم بدوره لكن هذا الدور قابل للتغير.
إن الشخصية الوظيفية ترتبط بدرجة تقدم المجتمع و بتقسيم العمل داخل كل مجتمع و مهمتها الأساسية السهر على حسن سير الحياة الاجتماعية بشكل يسمح باستيعاب مختلف الوظائف و الأدوار التي يقوم بها الأفراد في الحياة الاجتماعية، إن علاقة شخصية الفرد بالمجتمع ترتبط بنوع المجتمع الذي يحيا ضمن أفراده و هكذا تختلف هذه العلاقة باختلاف نوع المجتمع، فإذا كانت شخصية الفرد تذوب لصالح الجماعة في المجتمعات المسماة مغلقة كالعشيرة أو القبيلة.
أما في المجتمعات المتقدمة و المسماة منفتحة فتظهر النزعة الفردية الشيء الذي يؤهل الفرد للشعور بالعزلة و الانطواء و يؤدي في آخر المطاف إلى ظهور سلوكات مضطربة أو منحرفة و هذا يطرح على العلوم الإنسانية أعباء جديدة من أجل دراسة تلك الظواهر و توجيهها و التحكم فيها.
رجوع
III. الشخص و دوره في بناء الشخصية:
إن الانتقال من الاهتمام بالإنسان كذات في الفلسفة إلى الاهتمام به كموضوع مع العلوم الإنسانية واكب تطور الثورة الصناعية في المجتمعات الغربية، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل تتطابق النماذج التي وضعتها العلوم الإنسانية مع حقيقة الشخصية في مختلف أبعادها، أم أنها مجرد نماذج نظرية لا تعكس حقيقة الذات و ما تملكه من وعي و قدرة على التحرر و تجاوز مختلف الشروط التي تحيا ضمنها و ما هي مخلفات تلك النظرة العلمية على فلسفة الإنسان ؟
لقد تبين لنا أن علوم الإنسان تؤكد على أن هذا الأخير محكوم بمجموعة من من الحتميات هي التي تشرط وجوده و توجهها عبر قنوات لتصاغ بكيفية لا شعورية و عن طريق إكراهات المؤسسات الاجتماعية، فمعظم العلوم الإنسانية تؤكد أن الإنسان لا يعدو كونه مفعولا به و نتاجا لتفـاعل بنيـات و قواعد مؤسسية مختلفة تمارس عليه فعلها و إكراهاتها.
إن الإنسان لم يختر والديه و لا المجتمع الذي يعيش فيه و لا اللغة التي يتكلمها، كما أنه يدخل خلال عملية مستقلة عن إرادته، فمدرسة التحليل النفسي تؤكد أن الشخصية محكومة بحتميات لاشعورية هي التي تحدد في آخر المطاف الطابع المميز للشخصيات، و في نفس الوقت تؤكد الدراسات السوسيولوجية و الأنتروبولوجية على أن المجتمع يمارس تأثيره على الأفراد و يحدد أدوارهم و وظائفهم، و هكذا تبدو الشخصية من منظور العلوم الإنسانية عبارة عن نماذج نمطية جاهزة يتأطر ضمنها الأفراد بشكل موضوعي و مستقل عن إرادتهم، الشيء الذي سيدفع البعض إلى اعتبار كل النزعات العلمية التي تتبنى هذه الأطروحات بأنها ضد إنسانية و أنها حولت الإنسان إلـى شـيء و نزعت عنه كل خصوصيات الذات المتمثلة في الإرادة و الوعي و الحرية و التلقائية و بذلك تكون قد قتلت الإنسان.
إن قتل الإنسان هنا يتخذ معنى خاصا جدا، فهو من جهة إلغاء لذاتيته و لكل ما هو خاص فيه، و من جهة أخرى تحويله إلى موضوع يتم تناوله من زاوية معينة و اعتبار الجزء محددا للكل