تستعمل الحقيقة في الحياة اليومية بمعاني كثيرة و متعددة و لكن كلها تحيل إلى الواقع باستثناء كلمة حق حينما تستعمل للدلالة على الذات الإلهية أو إحدى صفاتها و لا تختلف الدلالة الفلسفية عن المعاني المتداولة فهي كذلك تتصف بالتعدد و الاختلاف تبعا للمجالات المعرفية التي تستخدم فيها.
و إذا عدنا إلى المعجم الفلسفي "لالاند" نجده يعرف الحقيقة كما يلي: [ الحقيقة خاصية ما هو حق، (القول المطـابق للواقع)، و هي القضية الصـادقة، و ما تحت البـرهنة عليه و شهادة الشاهد الذي يحكي ما فعله أو رآه، و الشيء الأصيل في مقابل المزيف ].
إن الحقيقة بمفهومها المعاصر تنحصر في مجال الفكر (الحكم) و الخطاب أو الكلام (القضية).
لكـن مادامت الحقيقة هي مطـابقة الحكـم للـواقع، فإن هذا الأخيـر يظل مـرجعا للحقيقة و من هنا يمكن طرح الإشكاليات التالية: ما علاقة الحقيقة بالواقع ؟ و هل هي مجرد صورة للواقع منعكسة في الفكر و معبرا عنها باللغة ؟ هل الحقيقة ذاتية أم موضوعية مطلقة أم نسبية ؟ و هل توجد الحقيقة بمعزل عن أضدادها ؟ أم أنها متلازمة معها ؟ و هل الحقيقة مسألة تخص العقل وحده ؟ أم تتدخل فيها الأهواء و الرغبات و الغرائز ؟ و أخيرا من أين تستمد الحقيقة قيمتها ؟
رجوع
. الحقيقـة و الـواقـع:
يدل مفهوم الواقع في اللسان العربي على ما هو ثابت و حاصل فعلا، أما في اللسان الفرنسي فيدل على ما ينتمي إلى الشيء أو إلى الموضوع، أما في الفلسفة كلمة الواقع تتحدد من خلال ما هو مناقض لها كالخيال و الوهم و الممكن و المعقول و الظاهري و الاسمي، أما في مجال العلوم التجريبية فيدل على ما هو معطى في التجربة و على مجموع الوقائع العينية الحاضرة أو الماضية.
ما علاقة الحقيقة بالواقع محددا على هذا النحو ؟ و إذا كان مفهوم الحقيقة يتضمن ما هو معطى ثابت قار و يقيني فهل الواقع تنطبق عليه هذه الخصائص ؟.
إن التجربة تبين على أن الواقع متغير و متحول إن لم يكن بصورة مطلقة فعلى الأقل بشكل نسبي. إن هذا هو الأساس الذي تقوم عليه إشكالية العلاقة بين الحقيقة و الواقع في شقيها أو جانبيها، الحقيقة كمرادف للواقع و الحقيقة كمطابقة الفكر بالواقع.
سنتناول الجانب الأول من هذه الإشكالية: الحقيقة بما هي واقع، فإذا كان ما يجمع بين الحقيقة و الواقع هو الثبات و الهوية.
لما كان الواقع يظهر في التجربة الحسية متغيرا، فما هي مختلف الأطروحات التي حاولت حل هذه الإشكالية ؟.
وجود واقع ثابت حقيقي، مفارق للواقع الحسي [ أفلاطون ] .
وجود واقع حقيقي محايث للواقع الحسي و حامل له [ أرسطو ] .
نفي الحقيقة عن الواقع و جعلها في الفكر وحده [ ديكارت ] .
إنكار إمكانية وجود الحقيقة و بلوغها على نحو مطلق . [ الشك المنهجي: نيتشه ] .
إمكانية وجود حقيقة نسبية و متغيرة [ الفلسفة الحديثة و العلوم المعاصرة ] نجد الأطروحة الأولى عند أفلاطون الذي يعتبر أن هناك نوعا من الواقع أو الوجود، هناك عالم المثل و هو عالم الموجودات أو الأشياء الحقيقية التي تتميز بالثبات و البساطة و الخلود، و هناك عالم المحسوسات أو عالم الأشياء و الموجودات المتغيرة التي يعتبرها أفلاطون مجرد صورة مشوهة لما يوجد في عالم المثل، فالحقيقة في نظره إنما ترتبط بما هو ثابت و لا يوجد ذلك إلا في عالم المثل ، أما المعرفة المرتبطة بالعالم المادي فهي معرفة متغيرة أو في أقصى الأحوال معرفة ظنية.
إلا أن هذه الثنائية التي يقيمها أفلاطون بين عالم المثل و عالم المحسوسات أدت بأرسطو إلى طرح التساؤل التالي: كيف يمكن أن يكون ما هو مادي محسوس نسخة مما هو لا مادي معقول و مجرد ؟
إن هذا التساؤل سيدفع أرسطو إلى إعادة النظر في الأطروحة الأفلاطونية فإذا كان الواقع الحسي ليس هو الواقع الحقيقي فإن الحقيقة لا توجد خارجه بل هي محايثة لأن المتغير لا يتغير إلا على أساس ما هو ثابت، فمثلا فإننا نعتبر الشجرة على أنها تمثل مظاهرها عبر الفصول، فوراء الأغـراض الحسية [ الصفات المتغيـرة ] جواهـر ثابتة تشكـل الواقع الحقيقي و لكن الأغراض تحفظ بدرجة من الحقيقة و الواقعية لأنها تشكل الوسيط الذي لا بد منه لإدراك الجواهر [ الصفات الثابتة ] إلا أن تدخل الحواس في عملية المعرفة و إنتاج الحقيقة سيدفع ديكارت إلى اعتبار أن التجربة الحسية قد تشكل عائقا في بلوغ الحقيقة و لذلك فيعتبر ديكارت أن لا بد من تجاوز التجربة الحسية لبلوغ الحقيقة بالعقل وحده.
إن ديكارت فيعتبر أن إنتاج الحقيقة شأن يخص العقل وحده، فالحقيقة إذن لكـي تكون كذلك لا بد أن تكون عقلية خالصة، و لكـن كيف ينتج العقل الحقيقة ؟ على أي أساس يعتمـد ؟ و ما هو المنهج الذي يمكن من ذلك ؟.
إن العقل يتضمن مبادئ فطرية على أساسها يمكن أن يفكر في جميع المواضيع دونما حاجة إلى الاعتماد على التجربة الحسية مادامت هذه الأخيرة خداعة و لا يمكن الوثوق بها.
و لهذا دعا ديكارت إلى الاعتماد على العقل من خلال اللجوء إلى ما يعرف بالشك المنهجي، إنه شك في المعرفة الحسية و في كل معرفة موروثة لم ينشأها العقل نفسه انطلاقا من المبادئ الفطرية المتضمنة فيه، و لهذا دعا ديكارت إلى الشك في جميع المعارف من أجل إعادة بناءها على أسس عقلية و لهذا صارت الحقيقة بالنسبة لديكارت هي ما ينتهي إليه الشك و ليس ما تعطيه لنا الحواس، فالحقيقة إذن مرادفة لما هو بديهي و واضح عقليا أو ما لا يعود قابلا للشك، إن ما توصل إليه ديكارت من اعتبار الحقيقة ذات طبيعة عقلية خالصة يطرح إشكالية جديدة عرفت في الفكر الفلسفي إشكالية المطابقة بمعنى إذا صارت الحقيقة عقلية خالصة، فكيف يمكن أن تنشأ مطابقة تلك الحقيقة للواقع ؟.
و أي واقع تكون تلك الحقيقة مطابقة له، هل هو الواقع الحسي المشكوك فيه و الذي لا يحمل حقيقته في ذلك بل يستمدها من واقع آخر مفارق له.
إن إشكالية المطابقة تقتضي أن يكون الشيئان متماثلان و من نفس النوع بحيث ينطبق أحدهما على الآخر، في حين أن الأمر ليس كذلك فيما يتعلق بكل من الحقيقة و الواقع، ذلك أن الحقيقة ذات طابع فكري مجرد، أما الواقع فقد يكون ماديا أو لا ماديا، و من هنا تطرح إشكالية المطابقة من جديد: كيف يمكن أن يكون ما هو لا مادي متطابقا مع ما هو مادي ؟
لحل هذه الإشكالية العويصة لجأ ديكارت و سبينوزا إلى فكرة الضمان الإلهي بمعنى أن الله الخالق للعالم و للإنسان هو الضامن لتطابق الفكر و الواقع و ما يدركه العقل على أنه حقيقة فهو كذلك.
ضد هذا التصور المرتكز على فكرة الضمان الإلهي سيقدم كانط أطروحته التالية: إن الحقيقة لا توجد لا في الفكـر و لا في الـواقع على نحو مسبق و جاهز، بل يتم بنـاؤها من مادة و صورة.
إن كل معارفنا تبتدئ بالحواس، فالتجربة الحسية تزودنا بما يسميه كانط مادة المعرفة أي ما ستعلق بأشكال الأشياء و ألوانها و أحجامها و توالي الظواهر أو تآنيها أو تعاقبها و لكن هذه المعطيات تبقى مفككة و غير منظمة، و لهذا لا بد من تدخل العقل بما يتضمنه من مفاهيم حتى يعطي لتلك المدركات الحسية طابعا منظما من خلال استعمال مجموعة من المفاهيم مثل الوحدة و الكثرة و العلاقات السببية.
رجوع
. أنـواع الحقيقـة:
إذا كانت الحقيقة مرتبطة باللغة و الخطاب، فإن هذا الأخير يتخذ أشكالا متنوعة بحسب المجال المعرفي الذي يتضمنه و لهذا يمكن القول إن الحقيقة لا وجود لها في صيغة المفرد بل إنها تتعدد بتعدد مجالات المعرفة، و هكذا يمكن الحديث عن حقيقة دينية و فلسفية، علمية، تاريخية، سياسية... إلا أن الغاية من إنتاج الحقيقة هي تبليغها للآخر و محاولة إقناعه بهذه الحقيقة، و يعد البرهان العقلي أو المنطقي منذ أرسطو أعلى أشكال إثبات الحقيقة لأن هذه الأخيرة حينما تتم البرهنة عليها تصير يقينية لا تحتمل الشك و الجدل.
غير أن أبا الوليد ابن رشد يبين أن اختلاف طبائع الناس و اختلاف قدراتهم المعرفية تقتضي اختلاف طرق تبليغ الحقيقة للناس و هذا ما أثبته ابن رشد من خلال تحليله للطرق التي اعتمدها القرآن أو الخطاب الإلهي في تبليغ الحقيقة فرأفة من الله بعباده خاطبهم على قدر مستـوياتهم المعـرفية، فالقـرآن يتضمن ثلاث طـرق لتبليـغ الحقيقة: هنـاك الأسلوب الخطـابي و يتضمن الوصف و ضرب الأمثال و أسلوبي الترهيب و الترغيب.
هناك الطريقة الجدلية : و هي موجهة لتلك الفئة من الناس التي كانت لها معرفة بالقضايا العقائدية (كالرهبان و الأحبار) و الذين كانوا يجادلون في بعض الحقائق الواردة في القرآن مثل (قيام الساعة و البعث).
هناك الطريقة البرهانية : و هي خاصة في نظر ابن رشد بالرسخين في العلم أي أهل البرهان و هي طريقة تعتمد على التأويل بإرجاع ما هو متشابه في القرآن إلى ما هو محكم مع ضرورة توفر شروط التأويل التي هي نفسها شروط الاجتهاد.
إن ما يقال عن الحقيقة الدينية إنما يمكن أن ينطبق على الحقيائق مهما اختلف مجالها ذلك أن الخطاب الديني نوع من أنواع خطابات الحقيقة فكل حقيقة يراد تبليغها للناس و إقناعهم بها يقتضي بالضرورة مراعاة مستوياتهم المعرفية و قدراتهم الإدراكية.
إن الحقيقة إذن تتسم بطبيعة الخطاب الذي يتضمنها و بالشخصية المنتجة لهذا الخطاب، هذا الارتباط بين الشخصية و أشكال الخطاب يمنحها سلطة و نفوذا لا يقومان على الحجـج التـي تقوم عليها الحقيقة بـل يتأسسان علـى سلطة الانحـراف الذي تمارسه الشخصية، و بذلك تحل هذه الأخيرة محل الحجج و البراهين التي ينبغي أن تقوم عليها الفريضة، و يمكن القول إنه في كل مجتمع نظام متكامل لإنتاج الحقيقة و فرضها و رسم حدودها مثلا هيمنة الخطـاب العلمي فـي المجتمعات المعاصرة الذي يستطيع بلـوغ حقيقة دقيقة و ناجعة أي لا يمكن الشك فيها، غير أن الخطاب العلمي و تاريخ العلم نفسه يثبت أن الحقيقة العلمية لا توجد بمعزل عن أضدادها، و أول أشكال اللاحقيقة هو الخطأ، فإذا تذكرنا الحقيقة من حيث هي مطابقة الفكر للواقع فإننا سنجد أن هناك أحكام و نظريات ظلت تعد حقائق ثابتة من ذلك أن الأرض هي مركز الكون و أن الكواكب الأخرى تدور حولها.
إن العلم لا يتقدم إلا بقدر ما يزيح من الأخطاء فالحقيقة العلمية في نظر باشلار ما هي إلا خطأ يتم تصحيحه.
و للحقيقة ضد آخر يلتحق بها ألا و هو الوهم فإذا كان الخطأ نتيجة لسوء استخدام العقل، فإن الوهم يشكل موضوع رغبة و لهذا من الصعوبة بمكان اكتشافه و التخلص منه.
و الـوهم فـي نظـر نيتشه ناتـج عن مصـدرين أساسيين: الأول حاجة الإنسان إلى السلـم و المسالمة من أجل حفظ البقاء و تجنب حالة الحرب الدائمة و المستمرة، لذلك فإن الإنسان لا يستخدم عقله إلا للإخفاء و الكذب و ليس لكشف الحقيقة و قولها و خاصة إذا كان الأمر يتعلق بما يشكل خطرا على حياته.