وقت طويل مضى على جلوسي في هذا المكان الموحش، كنت أرى خلاله أطياف لأشباح لم أعرفها يوماً، أو حدث أن رأيتها، رغم أن شيئاً بداخلي كان يخبرني بغير ذلك، كأن الوجوه مرت في تاريخ الذاكرة البعيدة جداً، أحدهم يبتسم في وجهي وهو يلقي عليّ تحية المساء، بينما يهتف آخر باسمي وهو يشير بإحدى يديه مودِّعاً، وأنا لا أزال متخشباً في مكاني، تظللني عتمة الزاوية التي أركنها، وضوء هارب من فراغ يحيطني.
كثيراً ما كنت أسألني، "أين أنا الآن؟ وما الذي جاء بي إلى هنا؟" لحظات كأنني قررت خلالها الانسحاب كرجل الظل البائس، لكنني لا أفعل، أتسمر على أريكتي، تراودني شكوك بأنني سألتقيه هنا، وفي هذا الشارع تحديداً، وتحت هذه الشجرة أيضاً.
... وكأنه يفكر مثلي تماماً، يحضر إلى الحديقة، يجلس على الأريكة المقابلة لي، يبتسم في وجهي، يحدق كأنه يريد افتراسي، أو كأنه يراني للوهلة الأولى، يسألني:
- من أنت؟
أجيبه بكل تؤده:
- أنا يسري
يضحك، ضحكاته تعانق السماء..
- اسمك يحمل اسمي المشئوم.
ابتسم، أحاول أن أقول اسمي كاملاً، لكنه يقطع شريط الهذيان الكامن بي بسؤال طالما انتظرته..
- أتحب اسمك؟
- لا
- لماذا؟ ألا يبدو لك جميلاً؟
- لا، فذلك الاسم لا يتقن قراءته الكثير.
ابتسم باستحياء، أتمتم:
- ربما، فهذا ما عانيت منه طيلة حياتي.
ضحكاته تتعالى مع أضواء الشارع الباهتة، وصوتي يلاحقه:
- لقد أسمتني أمي لتعلقها بممثل كان يحمل ذلك الاسم المشئوم في مسلسل ما.
ترتسم على وجهه علامات الدهشة. يسأل:
- أرجو ألا يكون ذلك الممثل مصرياً.
- هو بالفعل.
يتوقف، يسألني بعصبية:
- من أنت؟
أجيبه بتؤدة كما فعلت سابقاً:
- أنا يسري
يقف، والغضب يملأ كيانه، يبصق على الأرض، يضربها بقدميه، كأنه يريد أن يصفعني:
- أو أرسلك أحد لتهزأ بي؟
- بالتأكيد لا. لكن لماذا تشعر بأني أهزأ بك.
- لأنك تتحدث عني، فلا أحد يحمل اسمي في تلك العائلة.
- سيدي، أنا كما أخبرتك أحدثك عن نفسي.
- إذن أخبرني بالمزيد عنك.
- بماذا تريديني أن أخبرك؟
- من هو أبوك؟
- أبي يدعى عبد الرءوف.
- إنه أبي.
- أنت الذي تهزأ بي الآن.
- أخبرني ماذا تدرس؟
- لقد تخرجت من الجامعة الإسلامية، قسم اللغة الانجليزية قبل ثمانية أعوام.
- قل لي، كم هو عمرك الآن؟
- تسع وعشرون عاماً.
- ألم أخبرك بأنه أنا.
- لم أفهم قصدك سيدي.
- أيها المجنون أنت أنا، وأنا أنت.
- لا أفهمك أيضاً، أرجو التوضيح أكثر سيدي.
- يا ولدي أنا شبحك القادم، عمرك الطويل الذي سيلتصق بك.
- ......................
- أنا يسري، لكني أبلغ من العمر ستون عاماً الآن.
- أي أنني سأعيش إلى أكثر من ستين عام.
- نعم، ستفعل وستنجو من الحرب.
- أي حرب؟!
- ستأتي لاحقاً وستعايشها كما فعلت، لكن عليك أن تحذر، وتحافظ على أولادك، فإنها لن ترحم أحداً.
- كيف علمت بأن لي أولاد؟
- هههههههههههه، ألست أنت ذلك الماضي الجميل الذي يخصني؟
- لا أدري.
- قل لي: كم لديك من الأبناء الآن؟ اثنان صحيح؟
- نعم، فلدي أنس ومجد.
- أعلم ذلك. وأعلم أنهم يثيرون غضبك دائماً.
أضحك، فهم حقاً يثيرون حنقي وسخطي لدرجة لا تطاق.
- ألم أخبرك بأنك تتحدث عني. عن ماضي ستراه عندما تجلس هنا مرة أخرى.
لحظات تراودني شكوك بأني لا زلت على قيد اليقظة، وكأن حمى الجنون تلتهمني، لوثة من أنفلونزا حملت معها استنساخ لأرواح تحمل هيئات وأعمار مختلفة. أسأله:
- أخبرني، ماذا سيحل بنا خلال هذه الأعوام دامسة الظلام؟
ثم متابعاً:
- هل سيرفع هذا الحصار، أم أنها ستصبح أمنية كاسترجاع الأرض؟
يضحك، ثم يبكي، بكاءً لا طعم له ولا رائحة. يجيب والدموع توغل في تجاعيد وجهه... أسأله:
- لماذا تبكي سيدي؟
- .................
- .................
- لن أخبرك بشيء عن مستقبل، فأنت قاص وبإمكانك أن تستشرف الأحداث. ألست قاصاً.
- بلى، فلي مجموعة صدرت قبل ثلاثة أعوام.
- أعلم ذلك.
- ..................
- أعتقد أنه بإمكانك أن تدرك النهاية بنفسك، فقط كن فطناً.
- أخبرني، هل سأصبح مشهوراً، أقصد، أسأصبح كغسان كنفاني مثلاً، أو محمود درويش.
... يضحك، وريح نيسان تلفحنا:
- دع ذلك وشأنه، فأنت ستحمل الهم باكراً.
- .........................
- أرجو ألا تؤثر فيك الخطوب.
يتمتم:
- ليت الشباب يعود يوماً.
يقوم والهيبة تحفه.. اسأله:
- هل لي أن آخذ بيدك إلى حيث تسكن؟
- بالتأكيد.
- أخبرني سيدي، أين تسكن الآن؟ ألا زلت في مخيم الشاطئ؟!
- ......................
- ألا زلت في بيت العائلة الضيق؟
- لا، لقد كبرنا وبات أولادي على وشك الزواج.
أضحك.
- اعتني بشبابك جيداً.
- بالتأكيد سأفعل.
- إذن، هيا فلنغادر المكان.
لحظات، نرحل فيها، تغادرنا أشجار ذلك الشارع الموغل في الظلام، وأضواء باهتة تبزغ كخيط من نور بعد أعوام منذ اللقاء الأخير.