حظر التجول
كان أخ حفيظة السكير قد منعني يوما من رؤيتها بحجة أنه التقاني على بعد ستين كيلومترا من منزلي في بلدة أغبالة. السفر خروج من الستر وأفق المرأة الوقور حذاؤها. لم تكن هذه الإشادة بمخيلة الإسكافي لتروقني ولا لتروق صديقة الطفولة. كنا نحب المرور أمام المقاهي التي تتحاشاها النساء استفزازا للذكورة المصطنعة. مرة فعلناها تحت المطر بلا مظلات. كنا نمشي الهوينى أمام مقهى عيطون ونتحدث بأصوات عالية منفرة.
طلبنا من الج أن يأتينا ببغل من قرية إيمهيواش، ركبناه وأوجهنا إلى الخلف. أوصلنا الرجل الطيب للثانوية على هذا الحال ثم أخذ منا بعض الطفولة والبهيمة وعاد من حيث أتى وعيناه تلمعان من الضحك.
مرة أخرى استلفنا لباسا عسكريا ومررنا ورؤوسنا مرفوعة صوب قمم أشجار الجوز الفارهة. كان ذلك في نفس المكان الذي صفعت فيه نفيعة بعد أعوام رجل سلطة عنّف دون سبب ظاهر صديقا نحيفا مريضا بالسكري. واستعدت يومها للسجن كما تستعد النسوة للزواج.
نفيعة هذه كانت مثل الصلاة لا يستغنى عنها في أوقات الضعف وكانت تأتي جريا كلما مسّك سوء وتحملك لبيت والديها قائلة: أنت في بيتك ومن لم يعجبه الحال يخرج هو و لو كان أبي.
ويأتي الأب أحيانا ليطفىء النور ببساطة ونحن لم ننم بعد و يقول: إيوا السيبة هذى، الضو ماشي فابور ولا ماشي نتوما لي كتخلصوه.
فتقول نفيعة: كوني صمكة و ديري الووك مان. وحين تأتي خالتي فاطمة بصينية القهوة تتلقفها نفيعة بالباب قائلة: ما يذخل حتى واحد خلينا هانيين.
كنا مهووسات بالكلام والضحك المنفعل. نزج بالنكتة في كل شىء حتى في نذوبنا.
كانت نفيعة تعرف أني دائمة الهروب من نفسي فتناديني على الهاتف النقال: آلو حادة لوتوروت وا فين هازا ثاني البكاج.
كنت أترنح دوما تحث ثقل الكتب في حقيبة البلاستيك المظفور كمن يهدهد هما أزليا. أضعها تارة أمام منزلنا الخالي في القصيبة وأخرى عند الحيمر خلسة عن الأب الأعمى وأحيانا أضعها أمام الحي الجامعي لمولاي اسماعيل. مرة لم يكن لدى ما يكفي للوصول إلى أحد المرافىء التعيسة فوضعتها في الوحل في بلدة إحدى قريباتي. قال لي صاحب الحافلة: انزلي أللا هنا كملات الورقة
كنت أخذت معى موسوعات قديمة اشتريتها عند دانييل و لورينزو نيلفا في الرباط بغية بيعها تحسبا لمصاريف الهروب الطويل هذا. هاتفت عبد الكبير ميناوى وجاء بسيارة أخيه ليسعف الكتب من البلل. أطل زوج قريبتي من النافذة بوجه مكفهر. لم ير الكتب المبللة ولا عناء التيه. رأى رجلا وسيما يقف بسيارته مع النسيبة. وفهمت من شحوب المرأة المسكينة أن المعلم الذي تعرف البلدة كلها تحرشه بالخادمة المعوقة ذهنيا سوف ينتقم لكرامته المذبوحة بالشتم والسب ليال طوال. كان يكرهني لسبب خاص. طلبت أن أقابله يوما على انفراد فقلت له أن الخادمة المسكينة جاءت تطلب مني أن أرافقها للطبيب مخافة أن تكون حاملا فأخبرني أنها لا تعرف جسدها وفهمت أن المعلم عاشرها من موضع يصعب معه الحمل.
حكيت الأمر لنفيعة وذهلت حين أصعدتني لغرفة الصابون فوق السطوح. كانت تخفي فيها مراهقة عاشرها أبوها كزوجة سنوات طوال. وضعت سبابتها على بثور غليظة بوجهها وقالت:
الآن تعرفين سبب البثور.؟
كانت نفيعة تحب إغلاق الأبواب مثلي ومثلي أيضا لا تستطيع النوم دون غطاء ومثل حفيظة تحب الشغب والتجول تحت الشمس المحرقة والمطر. وحين أتاها العريس لم تسعد بفكرة الزواج وعدلت عن الأمر لأن خالدا لم يكن يراها كما الجميع بعيون ضيقة. كان يدعها ترافقنا في جولات الهوس الخالية من الرجال. كنا نقول من يمشي في الظهيرة غيرنا ومن يتحمل البلل وكل السبابات المصوبة نحونا كالمدفع امام العمالة في مدينة بني ملال . قد ننتهي في الصويرة إن أسعفنا السفر ففوهاتها موجهة إلى الخارج. فكرت في الأمر بجدية حين حكت لي زهور الحيمر أن نساءها لا يتعاركن أبدا بسطولهن في الحمام البلدي وقد يكون مرد ثقافة السلم الغريبة هذه في فضاء تسخن فيه الدماء انفتاح المدينة على الفن و دم حاجة النساء لإحراق بعضها البعض تحويلا لمكمن الغبن.
حليمة أيضا كانت ترافقنا حتى مخرج المدينة وكانت تترقب الهامات الكبيرة لإخوانها بهلع وكأنها وهي تسير تأتي بفاحشة كبرى. ولا تتوقف عن القول كأنها تقنع نفسها: نحن لا نفعل شيئا فاحشا. نحن لا نفعل شيئا فاحشا نحن فقط نتجول ....
ومهما كررت الأمر فإن الإحساس بالذنب الذى رشقت به منذ تفاحة آدم يظل كابسا على صدرها ولا تلبث أن تعود إلى البيت وتختفي في ركن قصي من حجرة القمح رفقة أغنيات أصالة وكاظم الساهر وزمرة من الفئران الهاربة بين الحين والحين كالشظايا.
لا شك أن فتنتي بالأفق والبحر جعلتني أنصاع له دائما مهما هزتني رائحة البيض والعرق وأصوات الباعة والمتسولين التي تأتي كالطبول على الأصموخ في الحافلات الحمراء المترهلة.
كنت أعود دائما للقصيبة. كان لها جاه في الصمت ككل البلدات البربرية المحزومة في كف الجبال كأقزام من تراب. ألقي عليها نظرتي العائدة ويحرقني إحساس من الداخل كذاك الذي يسقم آخر سكان بومباي غداة دفنها تحت الزلازل.
القرية صفر من المنتوج كما الأخاذيذ من الماء.
يقول البربري لابنه إن عشاءك في البراد. هكذا يسخر بعضهم من الفقر.
لكن الغريب في الأمر أنك قد تلتقي فيها فتنة بخدود حمراء وأعين مشرعة على الحلم في كل الأزقة. تخرج عليها سيارات ميرسيدس أحيانا كوحوش كاسرة تلقي بالغبارعلى المارة. لا يتوان أحد الزوار عن إخراج رأسه كأفعى غليظة ليساوم أما رفقة ذريتها. قد تنحني الأم للأرض في حركة أزلية تقتلع منها حجرا وترميه جزافا نحو الغريب وهي تخاطبه كما تفعل أحيانا مع الكلاب الجائعة وقد تلقي بها الحاجة والوهم نحو الغريب فتتم الصفقة زواجا أو غيره.
نعيمة من بين اللواتي تعثرن في البركة الموحلة وكبست أنفاسها تحت كرش عجوز موسر. كانت ثنايا جسده تسافر فوق بياض نهديها كقربة مملوءة بمياه الحزن.
وكان أخ حفيظة يحلم بصفقة مماثلة لأخته عله يستطيع تجرع خمرة طيبة عوض ماء الحياة التي تقطع مصارينه كل ليلة. كنا نفيعة وحليمة وأنا نهدد مشاريعه لأن حفيظة كانت تتجول معنا تحت المطر وترسم مثلنا وجوها جميلة فوق كراسات مثقلة بحظر السفر.
حفيظة لم تلق بنفسها في البحر حبا في الماء. تلقفها الحراكة وهي تفر لاهثة من أخيها السكير وصورة العجوز والخوف اللا مبرر في أعين حليمة والأعين المحرقة الغاضبة المطلة من النوافذ كالجمر. كنا نقف جميعا فوق جثتها أمام البحر. أمها تقف قبالته الآن كالجبل. تبصق بملىء رئتيها نحو إسبانيا وتوجه للغرب أوسط أصابعها ثم ما تلبث أن تدور على نفسها وتأتي بنفس الحركات صوب الداخل.
وإن حدث وزرت القصيبة يوما لا بد أنك ستلتقي والد حفيظة الذي يردد نفس الكلمات منذ الحدث:
لو عرفت يوما أن ابنتي ستتبع فرانسيس ما طردت افرانسيس لو عرفت يوما أن ابنتي ستتبع فرانسيس ما طردت افرانسيس..لو عرفت يوما أن ابنتي ستتبع فرانسيس ما طردت افرانسيس...لو عرفت.....
حادة قــادر" من المغرب تقيم في ديجون، فرنسا "