الصوم ضرورة
لم يعد هناك أي شك لدى الباحثين المنصفين من أن الصوم هو ضرورة من ضرورات الحياة. وقد أثبتت الحقائق التاريخية والدينية والعلمية هذه المقولة. لقد عرف الإنسان الصوم ومارسه منذ فجر البشرية. وأقدم الوثائق التاريخية ما نقش في معابد الفراعنة وما كتب في أوراق البردي من أن المصريين القدماء مارسوا الصوم وخاصة أيام الفتن حسب ما تمليه شعائرهم الدينية. وللهنود والبراهمة والبوذيين تقاليدهم الخاصة في الصوم حددتها كتبهم المقدسة ؟.
ولعل أبوقراط _ القرن الخامس قبل الميلاد _ أول من قام بتدوين طرق الصيام وأهميته العلاجية. وفي عهد البطالسة كان أطباء الإسكندرية ينصحون مرضاهم بالصوم تعجيلاً للشفاء. كما أن كافة الأديان السماوية قد فرضت الصيام على أتباعها ? كما يتبين لنا من النص القرآني فيقوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) {سورة البقرة}
ولحقيقة أن الإنسان لا يصوم بمفرده، فقد تبين لعلماء الطبيعة أن جميع المخلوقات الحية تمر بفترة صوم اختياري مهما توفر الغذاء من حولها، فالحيوانات تصوم وتحجز نفسها أياماً وربما شهوراً متوالية في جحورها تمتنع فيها عن الحركة والطعام، والطيور والأسماك والحشرات كلها تصوم.
إذ معروف تماماً أن كل حشرة تمر أثناء تطورها بمرحلة الشرنقة التي تصوم فيها تماماً معتزلة ضمن شرنقتها. وقد لاحظ العلماء أن هذه المخلوقات تخرج من فترة صيامها هذه وهي أكثر نشاطاً وحيوية. كما أن معظمها يزداد نمواً وصحة بعد فترة الصوم هذه؟.
ويعتبر العلماء الصوم ظاهرة حيوية فطرية لا تستمر الحياة السوية والصحة الكاملة بدونها. وإن أي مخلوق لابد وأن يصاب بالأمراض التي يعاف فيها الطعام إذا لم يصم من تلقاء نفسه، وهنا تتجلى المعجزة الإلهية بتشريع هذه العبادة. فالصيام يساعد العضوية على التكيف مع أقل ما يمكن من الغذاء مع مزاولة حياة طبيعية، كما أن العلوم الطبية العصرية أثبتت أن الصوم وقاية وشفاء لكثير من أخطر أمراض العصر ؟.
فمع قلة كمية الطعام الوارد إلى الأمعاء، يل ضغط البطن على الصدر، فينتظم التنفس ويعمل بصورة أكثر راحةً وانسجاماً، إذ تتمدد الرئتان دون عوائق، ويقل العبء الملقى على القلب فتقل ضرباته لعدم الحاجة إلى بذل ذلك الجهد الكبير لدفع الدم إلى الجهاز الهضمي للعمل على هضم تلك الكميات الهائلة من الطعام.
وقبل كل شيء فإن الجهاز الهضمي يحصل على الراحة اللازمة لتجديد أنسجته التالفة، وحيويته التامة، كما أن قلة نواتج التمثيل الغذائي وفضلاته تسمح بفترة راحة لجهاز الإفراغ _ الكلي _ تجدد بها نشاطها وتجبر ضعفها، وبذا يكون الصوم فرصة ذهبية للعضوية لاستعادة توازنها الحيوي وتجديد نفسها بنفسها. وقد أكد البروفيسور نيكولايف بيلوي من موسكو في كتابه " الجوع من أجل الصحة 1976 " أن على كل إنسان _ وخاصة سكان المدن الكبرى أن يمارس الصوم بالامتناع عن الطعام لمدة 3 – 4 أسابيع كل سنة كي يتمتع بالصحة الكاملة طيلة حياته ؟.
أما ماك فادون من علماء الصحة الأمريكيين فيقول: إن كل إنسان يحتاج إلى الصوم وإن لم يكن مريضاً لأن سموم الأغذية تجتمع في الجسم فتجعله كالمريض فتثقله ويقل نشاطه فإذا صام خف وزنه وتحللت هذه السموم من جسمه وتذهب عنه حتى يصفو صفاءً تاماً ويستطيع أن يسترد وزنه ويجدد خلاياه في مدة لا تزيد عن 20 يوماً بعد الإفطار. لكنه يحس بنشاط وقوة لا عهد له بهما من قبل. وقد كان ماك فادون يعالج مرضاه بالصوم وخاصة المصابين بأمراض المعدة وكان يقول: فالصوم لها مثل العصا السحرية، يسارع في شفائها، وتليها أمراض الدم والعروق فالروماتيزم
أما الكسيس كاريل الحائز على جائزة نوبل في الطب فيقول في كتابه " الإنسان ذلك المجهول ": إن كثرة وجبات الطعام ووفرتها تعطل وظيفة أدت دوراً عظيماً في بقاء الأجناس الحيوانية وهي وظيفة التكيف على قلة الطعام، ولذلك كان الناس يصومون على مر العصور، وإن الأديان كافة لا تفتأ تدعو الناس إلى وجوب الصيام والحرمان من الطعام لفترات محدودة، إذ يحدث في أول الأمر شعور بالجوع ويحدث أحياناً تهيج عصبي ثم يعقب ذلك شعور بالضعف، بيد انه يحدث إلى جانب ذلك ظواهر خفية أهم بكثير، فإن سكر الكبد يتحرك ويتحرك معه أيضاً الدهن المخزون تحت الجلد. وتضحي جميع الأعضاء بمادتها الخاصة من أجل الإبقاء على كمال الوسط الداخلي وسلامة القلب. وإن الصوم لينظف ويبدل أنسجتنا، والصوم الذي يقول به كاريل يطابق تماماً الصوم الإسلامي من حيث الإمساك فهو يغير من نظام الوجبات الغذائية ويقلل كميتها.
وقد سئل أحد المعمرين وهو ميشيل أنجلو عن سر صحته الجيدة وتمتعه بنشاط غير عادي بعد أن تجاوز الستين من عمره فقال: إن السبب في احتفاظي بالصحة والقوة والنشاط إلى اليوم هو أني كنت أمارس الصوم من حين لآخر ؟.
ويرى الدكتور محمد سعيد السيوطي: أن الصيام الحق يمنع تراكم المواد السمّية الضارة كحمض البول والبولة وفوسفات الأمونياك والمنغنيزا في الدم وما تؤهب إليم من تراكمات مؤذية في المفاصل، ، الكلى _ الحصى البولية _ ويقي من داء الملوك _ النقرس _ وينقل أبحاث الغرب أن الصيام ليوم واحد يطهر الجسم من فضلات عشرة أيام، وهكذا فإن شهر الصيام يطهر الجسم من فضلات وسموم عشرة أشهر على الأقل.
ومن هنا نرى الحكمة من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصيام ستة أيام من شوال، وحتى تكتمل عملية التنظيف، وأردفه بأيام معدودات من كل شهر لكمال الحيطة. يقول صلى الله عليه وسلم: " من صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان كصوم الدهر " {رواه الإمام مسلم عن أبي أيوب الأنصاري }
ويكتب الدكتور إبراهيم الراوي عن أثر الصيام على القدرات الفكرية عند الإنسان: يؤثر الصيام في تنشيط الخلايا الدماغية التي تضاعف حيويتها لتوقف نشاط الجهاز الهضمي فيندفع الدم بغزارة إلى أنسجة المخ لتغذية تلافيفه، وتزويد الحجر الدماغية بالغذاء الأمثل لعملها.
نعم، إن المخ البشري يحتوي على 15 ألف مليون خلية ألهمتها القدرة الإلهية قابليات خارقة على التفكير والتعمق في المسائل المعقدة وحلها. وتزداد هذه القابليات مع زيادة ورود الدم إليها. وهكذا نرى أصحاب العقول المفكرة يصومون كل فترة لتجديد نشاط أدمغتهم.
ويتفق الباحثون على أهمية الصوم الحيوية من ناحية أن تخزين المواد الضرورية في البدن من فيتامينات وحوامض أمينية يجب ألا يستمر زمناً طويلاً، فهي مواد تفقد حيويتها مع طول مدة التخزين. لذا يجب إخراجها من " المخزن " ومن ثمَ استخدامها قبل أن تفسد. وهكذا فإن الجسم بحاجة من فترة لأخرى إلى فرصة لإخراج مخزونه من المواد الحيوية قبل تفككها وتلفها. وهذه الفرصة لا تتاح إلا في الصوم، وبالصوم وحده يتمكن الجسم من تحريك مخزونه الحيوي واستهلاكه قبل فوات أوانه، ومن ثم يقوم بتجديده بعد الإفطار ؟.
وقد بين ألن سوري Alain Saury ? قيمة الصوم في تجديد حيوية الجسم ونشاطه ولو كان في حالة المرض، وأورد حالات عدد من المسنين، تجاوزت أعمارهم السبعين، استطاعوا بفضل الصوم استرجاع نشاطهم وحيويتهم الجسمانية والنفسانية حتى أن عدداً منهم استطاع العودة غلى مزاولة عمله الصناعي أو الزراعي كما كان يفعل في السابق نسبياً.