تقدیم:
عرف العالم مع منتصف القرن 19 ثورة صناعیة ثانیة بدأت بمجموعة من الاختراعات والتقنیات، ولم یقتصر تأثیرھا على الصناعة فقط، بل
امتد إلى الفلاحة، النجارة وحركة الأموال؛ و برزت في خضم ھذه التحولات الرأسمالیة المالیة، بحیث أصبح أصحاب الرسامیل من مؤسسات
القرض و الأبناك ھم المتحكمون في المجتمع الرأسمالي ولیس رجال الصناعة. و كان من الطبیعي لھذا المجتمع الرأسمالي الذي یعرف مرحلة انتقال
أن یتغیر كذلك على المستوى الاجتماعي وعلى مستوى الفكري. لكن ھذا التطور سیحمل في طیاتھ مشاكل ومآسي لفئات واسعة من سكان المجتمع
الرأسمالي. فما ھي الظروف المساعدة لظھور الرأسمالیة المالیة؟ وكیف تعامل المجتمع الرآسمالي مع تناقضاتھ الاجتماعیة؟.
1/ التحولات الاقتصادیة ومظاھرھا :
1.1 / ساھمت عوامل مختلفة في التحولات الاقتصادیة داخل المجتمعات الرأسمالیة :
إن المنافسة بین الشركات، وانتشار البحث العلمي، إلى جانب توفر الأسواق كلھا عوامل دفعت المنتجین من رجال الصناعة إلى البحث عن
وسائل لرفع الإنتاج وتخفیض التكلفة، فوفروا المال للبحث في مجال العلوم والتقنیات؛ فالاختراعات والتقنیات تكاثرت في القرن 19 بشكل لم یسبق لھ
مثیل في التاریخ السابق؛ .الاختراعات انطلقت من قاطرة ستیفنسین سنة 1814 لتصل إلى سیارة فورد سنة 1908 ، مرورا بالمصباح والبطاریة
والحریر الاصطناعي والھاتف ثم الطائرة... لقد مست الاختراعات كل القطاعات من نقل وتعدین وطاقة وصناعات. أما التقنیات فتمثلت في الطرق
الجدیدة لصھر الحدید و إنتاج الفولاذ و الألمنیوم. لقد كانت ھذه الاختراعات تنتشر بشكل كبیر بفضل المعارض والأسواق التجاریة، وظلت ألمانیا
وإنجلترا تتزعم مجال الاختراع طیلة القرن التاسع عشر.
2.1 / تجلت مظاھر التحولات الاقتصادیة في توسع الصناعة وارتفاع الإنتاج الفلاحي :
في الصناعة:
- ظھور نظام المعامل حیث العمل المتسلسل والتخصص، كما أصبحت المعامل والصناعات تتجمع في مناطق كبرى بالمجال
الحضري.
- استعمال الآلة بشكل واسع في كل مراحل الإنتاج وھذا ما شجع صناعة الحدید و مھد لظھور صناعات جدیدة كالصناعة
المیكانیكیة.
- استغلال طاقات جدیدة كالبترول، الغاز، الطاقة الكھرمائیة مع استنزاف مناجم الفحم.
لقد خلٌف ھذا التطور ارتفاعا في الإنتاج وتنوعا في الصناعات، وأصبح القطاع الثاني ھو الأساس في البنیة الاقتصادیة بالدول الرأسمالیة، كما
وفرت الصناعة البضائع الوافرة والمتنوعة للتبادل التجاري، وأضحت في ھذه الظروف مسألة الأسواق الخارجیة مسألة حیویة للاقتصاد الرأسمالي.
في الفلاحة:
التطور في القطاع الفلاحي بالدول الرأسمالیة ثم بشكل متفاوت بین الدول، وكانت إنجلترا سباقة في ھذا المجال نظرا لعدة عوامل.
تجلى التحول الفلاحي في:
- التخلي عن استراحة الأرض والعمل بنظام التناوب الزراعي وھذا ما مكن من اتساع المجال الزراعي وتوفیر المراعي.
- التخصص أمام منافسة الدول الجدیدة ككندا وأسترالیا في مجال القمح، لجأت المجتمعات الرأسمالیة إلى زراعة متخصصة،
بحیث ظھرت مجالات واسعة للخضر بأوربا الجنوبیة، ومراعي شاسعة بالشمال، أما حقول الحبوب فانحصرت بالوسط.
- المكننة والأسمدة: ظھرت آلات جدیدة كالجرار والآلة الحاصدة، بل إن الصناعة أصبحت في خدمة الفلاحة لیس فقط بتوفیر
الآلات، بل كذلك الأسمدة والأدویة.
إن التحول في الفلاحة سیؤدي إلى رفع الإنتاج وتنوعھ، كذلك إدخال الآلة سیحرر الید العاملة من النشاط الفلاحي. لقد نجح المجتمع
الرأسمالي في تحقیق أمنھ الغذائي، بل إن استمرار ارتفاع الإنتاج سیعرض ھذا المجتمع إلى أزمات فائض الإنتاج، من ھنا ستظھر أھمیة
السوق الخارجي، والتي ستشكل دافعا لظاھرة الاستعمار بل مصدرا لنزاعات دولیة.
درس التحولات الاقتصادیة والمالیة الاجتماعیة والفكریة في العالم في القرن التاسع عشر 2
في التجارة:
كان من الطبیعي للمجتمعات الرأسمالیة وبعد أن حققت اكتفاءھا أن تبحث عن وسائل لتصریف فائض إنتاجھا، والحقیقة أن التجارة
بالعالم الرأسمالي خلال القرن التاسع عشر استفادت كثیرا من الاختراعات في مجال النقل، وخاصة المحرك الانفجاري، كما استفادت من
مد الطرق بین المدن والقرى وبناء القناطر، ثم جاء القطار لیشكل ثورة في مجال التجارة. مما سینتج عنھ اتساع المبادلات وتنوع البضائع
المتبادلة.
2/الرأسمالیة المالیة وتحولات المجتمع الرأسمالي :
1.2 / تطور النظام الرأسمالي :
عرفت الرأسمالیة وحتى القرن 19 ثلاث مراحل في تطورھا:
*الرأسمالیة التجاریة في القرن 15 مع الاكتشافات الجغرافیة وظھور المدن. خلال ھذه الفترة شكلت التجارة الثلاثیة وكان استعمار العالم
الجدید مصدرا لتراكم الأموال والثروات في أوربا مما یفسر تزاید المبادلات ونشأة الأبناك.
* في القرن 18 بدأت الرأسمالیة الصناعیة مستفیدة من التطورات المرتبطة بصناعة النسیج والتعدین والفحم والبخار، وأصبحت الصناعة
ولیس التجارة مصدرا للقوة والتطور، وظھرت آنذاك التركزات الصناعیة مثل التروست والكارتل، كما تزایدت حدة المنافسة وتقوت الاحتكارات
الصناعیة.
*في القرن 19 بدأت الرأسمالیة المالیة، فالابناك ستراكم الأموال طیلة القرن 18 ، وستعمل على توظیفھا خلال القرن 19 في مجال البورصة
والشركات المتعددة الجنسیة وشركات المساھمة؛ فالابناك خلال القرن 19 ستطور من وظائفھا وستصبح ھي المالكة والموجھة للإقثصاد.
2.2 / التحولات الاجتماعیة:
تمثلت في الارتفاع السریع لساكنة المجال الرأسمالي، وھو ارتفاع مس كل الدول، وثم بفضل تراجع الوفیات واستمرار ارتفاع الموالید، مما
وفر الید العاملة والسوق الاستھلاكي، كما ارتبط ھذا الارتفاع ببدایة النمو الحضري، بحیث ظھرت مدن ضخمة بفعل الھجرة من البوادي، وانتشرت
داخلھا وحولھا الصناعات المتنوعة. إن ھذا العھد السعید للرأسمالیة لم یخل من بؤس وفقر و تناقضات تعكسھا أحیاء العمال وأوضاعھم، وكذلك
تشغیل الأطفال والنساء.
3.2 / الطبقة العاملة:
تزاید عدد العمال خلال القرن 19 ، كما تزایدت ساعات العمل؛ في وقت ظلت ظروف الشغل من حیث السكن والغذاء والصحة والأجور جد
قاسیة، وغالبا ما كان العمال یعبرون عن سخطھم بتخریب الآلات وحرق المعامل. لكن مع نھایة القرن 19 ، وبفضل دور النقابات و الأممیات،
وبفضل الأفكار الاشتراكیة الماركسیة، سیحصل تطور في وعي الطبقة العاملة جعلھا تدرك أن تناقضھا وصراعھا ھو ضد النظام الرأسمالي القائم
على الملكیة الفردیة وعلى الاستغلال.
لقد تمكنت الطبقة العاملة ومن خلال نضالھا طیلة القرن 19 من تحقیق العدید من الحقوق كالحق النقابي، حق الإضراب، تحدید ساعات
العمل، العطل وتحسین الأجور.
3.3 / التحولات الفكریة:
تمثلت في ظھور المذاھب الاشتراكیة والتي سعت إلى حل تناقضات النظام الرأسمالي، لاسیما انتشار البؤس والطبقیة. تنقسم ھذه المذاھب إلى
ثلاث تیارات:
- الاشتراكیة الطوباویة: تزعم ھذا التیار رجل الأعمال والمفكر الإنجلیزي، روبرت وین. أفكار ھذا الاتجاه تتجلى في المطالبة بتكوین
تعاونیات لحل مسالة الفقر، وطالب روبرت وین بتكوین نقابات توحد بین العمال وأرباب العمل، كما رفض ھذا التیار الحكومة
السیاسیة وطالب بحكومة من المثقفین.
- الاشتراكیة الفوضویة: تزعم ھذا التیار الاقتصادي الفرنسي برودون، وقد وجھ انتقادات للدولة والدین وأعتبرھم مصدر البؤس
والشقاء، وطالب بتوفیر قروض للفقراء وبدون فوائد، مما یمكنھم من خلق مشاریع والخروج من الفقر.
- الاشتراكیة العلمیة: تزعماھا الفیلسوفان كارل ماركس و فریدریك إنجل، ویرى ھذا التیار أن الملكیة الخاصة ھي مصدر التناقض
والفقر، لھذا طالبا بإسقاط النظام الرأسمالي وتعویضھ بالاشتراكیة حیث الملكیة الجماعیة لوسائل الإنتاج، أما الحكومة فتتكون من لجان
ومجالس العمال، واعتبر ھذا التیار أن الثورة ھي الحل لتحقیق ھذا الانتقال.
أن تطور المجتمع الرأسمالي وما أفرزه من تناقضات سیخلق حدة في المنافسة بین الدول مما سیؤثر في الأحداث المقبلة خلال القرن العشرین.