غادر البيت وهو يفكر في أمر الدواء الذي عليه أن يشتريه لزوجته النفساء. وتحسس في جيبه "الروشيتة" التي كتبها الطبيب مساء اليوم السابق. ثم فتش جيوبه فلم بجد غير قروش قليلة لا تكاد تكفي ثمن علبة سجائر علاوة على أجرة السيارة.
وفكر أن أول ما ينبغي عمله في هذا الصباح المشمس هو شراء سجائره … وعرج على أول دكان صادفه … وخرج بعد قليل وهو يشعل لفافة ويسحب منها أنفاساً طويلة. وسار مطأطئ الرأس لا يكاد يشعر بمن حوله، وعاود التفكير في زوجته المريضة في كراهية ونفور كأنه يلومها على مرضها. وضغط ثانية على الروشيته … وتكورت في يده … وود لو يمزقها أو يرميها … هذا، لأنه لا يملك ثمنها، فان مرض زوجته قد أتى على كل ما يملك … حتى ما كان يدخره للأيام العصيبة. لكن أملاً صغيراً - نبع فجأة في أعماقه - منعه من ذلك. وسار متوجها إلى بيت مخدومه. كان الرجل لا يضن عليه كلما حز به أمر، سيقترض منه بضعة دنانير يسددها على أقساط تخصم من أجره الأسبوعي.
ولم يجد الرجل في البيت. وقابلته زوجته … وكانت تعرفه جيداً وتعامله في طيبة كلما جاء البيت في أمر يعهد إليه. وتكلمه دون حذر أو تكليف … واستقبلته المرأة في شيء من الترحيب والابتسام … ولم يعجب كثيراً بأسلوب ترحيبها فقد كانت تشعره دائما بأنها تعامله بطريقة خاصة … لا يفهم ما وراءها …
وحدجته بنظرة طويلة متفحصة وسألت:
- ماذا تريد؟
- رؤية السيد …!
- انه ليس هنا … هل تريده في أمر خاص؟
- … ولكن ما دام ليس موجوداً …
ولم تدعه يتم كلامه، قالت بلهجة طبيعية:
- هل أنوب عنه؟
وتردد … فأردفت:
- أو تحب أن انقل إليه مطلبك … إذا كان لك من مطلب …؟
- الواقع … نعم … إنني في حاجة ماسة إلى النقود …
- آه …
وقفت متحيرة لحظة، فقال …
- سأجيء في وقت آخر …
ودار على عقبيه … وهم أن ينصرف … فتبعه صوتها تقول بلهجة حازمة:
- ليكن ذلك في الثامنة مساءً …!
وتوقف لحظة … ثم التفت إليها … والتقى بعينين تشعان بريقاً أخاذاً … وشفتين تنفرجان … عن نداء صارخ … لا مجال للشك فيه … وتعلقت أنظاره بها وكان قد نسي أمر زوجته والدواء و النقود … وكل شيء … وظل عالقاً بذهنه دعوة المساء … ونظرة التواطؤ … وابتسامة التشجيع. وابتلع ريقه وهو يتحامل على نفسه ويضبط أعصابه … ويهز رأسه موافقاً وفتح فمه ليقول كلاماً لم يخرج من حلقه. وأنهت كلامها قائلة: "مع السلامة" وأوصدت الباب وراءه … وقد تناهبته الأفكار والوساوس: لماذا في الثامنة مساءً؟؟ لماذا لم تقل عند الظهر أو العصر … وهل سيكون زوجها في البيت في تلك الساعة …؟ إنه يعرفه جيداً فهو من النوع الذي يقضي سهراته في الخارج … بينما تكون زوجته وحيدةً في البيت …
ومضى يخبط في الشوارع على غير هدى … إلى أن نال منه التعب كل منال … فجلس يستريح في أحد المقاهي … واحتسى فنجان قهوة وقد نسي حتى التفكير في زوجته المريضة. وحوالي الظهر … عاد إلى البيت منهوكاً شارد اللب، وسألت زوجته بصوت واهن:
- أين كنت إلى هذه الساعة؟
وأتى بحركة تحمل معنى اللامبالاة وضيق الصدر، وحركت رأسها في بطء ونظرت إليه بعينين نصف مغمضتين. قالت بصوت لا يكاد يسمع:
- انك لا ترد …!
قال بغضب لم يستطع كبح جماحه:
- لم استطع أن احضر لك الدواء … ألا يكفيك هذا …؟ إنني لم أستطع الحصول على أي شيء …
- ألم يكن هناك ما تفكر به غير الدواء؟
- ماذا تعنين؟
ورمقها بنظرة اشمئزاز … ثم اغتصب ابتسامة باهتة … ليخفي مظهر الامتعاض الذي يكسو وجهه …
كانت تتألم وتبكي في صمت:
- لا تهتمي … لن يمر اليوم … قبل أن أتدبر أمر النقود … وبكت بحرقة.
- أنا … لا أريد النقود … بقدر ما أريد أن تكون بجانبي …
- ولكن النقود لا تأتي وحدها إذا لم نسع إليها …
قال ذلك في حالة من الضيق والغضب.
وأراد أن ينهض، فوضعت يدها على ذراعه وقالت في رجاء:
- لا تغضب … ابق بجانبي قليلاً …!
ورنا إليها بنظرة فاحصة … كان شعرها منفوشاً … وجبينها يتصبب عرقاً … ووجهها شاحباً وعيناها غائرتين من المرض. تحيط بهما هالتان زرقاوان. ولم تبد له زوجته قط بمثل هذا القبح كأنه يراها للمرة الأولى. بالرغم منه قفزت إلى ذهنه صورة ناضرة أخاذة لوجه آخر.ناعم، متورد، حسن التغذية … جميل الإشراقة بتينك العينين الساحرتي النظرات والشعر الذهبي المسدل باعتناء على الكتفين العاجيتين.
وتنهد في أسف … وهو ينظر شزراً إلى زوجته العجفاء المهزولة … ولم يطل مكوثه في البيت … وعاد يطوف في الشوارع ثانية وعند الساعة الثامنة كان يقف وراء الباب خافق القلب مبهور الأنفاس. وقد توزعته مشاعر الخوف والاضطراب والتهيب … ولأول مرة يفكر في مخدومه … وولي نعمته وتمنى لو كانت زوجة لرجل آخر … وفكر: " إنه لن يقوى على النظر ثانية إلى الرجل الذي وضع فيه ثقته … أنه سيموت من الخجل والندم أمام نظراته المطمئنة" … ودار على عقبيه وقفل راجعاً … ولكنه لم يتعد البوابة الخارجية … وتوقف متردداً حائراً. إنه لم يكن ذنبه على الإطلاق. فليس هو الذي أراد ذلك … إنها هي التي دعته … وما عليه وهو مستخدم لدى زوجها إلا أن يجيب دعوتها … فهذا ما يجدر به فعله راضياً أو كارها … وعاد يفكر في مفاتن جسدها … أمام هزال زوجته وقبحها … وأحس بشيء يشده إلى الخلف … إلى المنزل الذي يقف أمامه. وأخذ يتلفت حوله متفقداً الطريق … ونظر إلى البيت ورأى ضوءاً خافتاً في إحدى غرفه … أما بقية الغرف فكان يلفها الظلام والسكون …
وقف أمام الباب لحظة قصيرة … ريثما يسترد أنفاسه … ثم ضغط زر جرس كهربائي … وتعكر الصمت لحظات ثم ساد السكون ثانية … كان كل شيء يوحي بالخطيئة التي سيرتكبها. ولم تصدر عن البيت أية نأمة … وضغط ثانية وظل ينتظر …
وسمع وقع خطوات خفيفة تقترب وفتح الباب … وأطلت بوجهها الباسم … وما عتَم أن فتحت الباب على اتساعه ليمر منه … وأخذ يتفحصها بنظرات والهة خجلى واستثاره أنها تقابله بثوبها المنزلي … تكاد حوافه تلامس الأرض. وكانت زينتها كاملةً … كان كل شيء معداً … كما تقتضي طبيعة الحال … وفكر أنه من اللائق أن يسأل عن زوجها وأجابت بلهجة عادية لا أثر للانفعال فيها:
- إنه ليس هنا …!
وتلعثم قائلاً:
- كنت اعتقد …
- أنا لم اقل انك ستجده هنا في هذا الوقت …
وأخذ كل شيء يزداد وضوحاً … وبلع ريقه اكثر من مرة … وأحس بأذنيه تشتعلان من شدة الاضطراب …
وفتحت حجرة استقبال على يمين الداخل وأضاءتها ثم دعته للدخول … وسار بخطوات مرتبكة ثم استقر على مقعد وثير … لم يكن بحاجة إلى تأمل فخامة الحجرة، والبذخ الذي تنم عليه كل قطعة أثاث فيها، فهو يعرفها جيدا، فقد سبق له أن ألقى عليها نظرة أثناء تردده على البيت في أمور تتعلق بعمله. ولكنه الآن يجلس فيها … بكل حرية كأنه مالك البيت … وإن لم يفلح هذا في إزالة ارتباكه … وإحساسه بأنه في غير مكانه.
غابت لمدة دقائق معدودة، ثم رجعت، وجلست على مقعد مقابل وهي تقول مجاملة:
- كيف حال زوجتك؟
فصدمه سؤالها، وتمنى لو يتجاهله … ولكن لا بد من الإجابة:
- مريضة قليلاً …
قالت في استغراب:
- قليلاً؟ … لقد سمعت أن حالتها خطرة …!
فكر ثم قال في ضيق:
- لا … ليس إلى هذه الدرجة …
- ألم تعرضها على دكتور؟
ورفع رأسه عن الأرض ونظر إلى عينيها وهو يفكر:
" متى تفصحين عن رغبتك الحقيقية؟"
- بلى …
- وماذا قال؟
" متى ينتهي تحقيقك …؟ متى سندخل في الموضوع؟"
وكان عليه أن يحاول من جانبه، فهو الرجل على أية حال …
- أوصى بالراحة لها … و … وكتب لها دواء … لفظ هذه الكلمات في سرعة وتلعثم، وتهيأ لأن يقول شيئاً آخر … ولكنها قطعت عليه الطريق …
- إذن فأنت تحتاج النقود لهذا الغرض …؟
فهز رأسه موافقاً …وتمتم:
- … نعم.
واعتدلت في جلستها، وقالت:
- الحق … إنني فكرت في زيارتها … ولكنني حتى الآن لم أستطع … ربما في المستقبل …
ومد يده إلى علبة صدفية، وضعت على مائدة مستديرة أمامه، وتناول لفافة دون أن تدعوه إلى ذلك … وأشعلها … وسحب نفساً طويلاً … ونفث غيظه مع سحابة الدخان الكثيفة التي خرجت من فمه …
ومدت يدها بورقتين من فئة الخمسة دنانير كانت تخفيهما في قبضة يدها. وتطلع إليها مبهوتاً وهي تقول:
- خذ هذه النقود لزوجتك …
وتصبب عرقه … وأحس بحرج شديد، وصر على أسنانه في غيظ مكبوت، وفكر في أن يرمي النقود في وجهها، ويخرج لا يلوي على شيء … ولكنه فكر في عاقبة ذلك … فأحجم ثم قال في مذله:
- أنا لا اطلب سلفة أكثر من خمسة دنانير …
قالت وهي ترسم على شفتيها ابتسامة عطف وتواضع:
- والخمسة الأخرى "نقوط" للمولود الجديد …
"أهذا ما أردت أن تعطينه؟!"
وغرقَ في الإهانة …
- أشكرك … لا ضرورة لذلك …
قالت تشجعه:
- خذها … لا تتردد …!
وداعبه أمل يائس:
- ولكن … لماذا؟…
- لقد قلت لك … كان بودي أن احضر أقدمها بنفسي إلى زوجتك … ولكن الظروف لم تسمح لي بذلك …
وتناولها وأخفض رأسه إلى الأرض، وهو يشعر بالخزي والارتباك … وقالت بلهجة من يختتم حديثاً:
- إذا احتجت إلى نقود … فلا تتردد في طلب ذلك …
ونهض قائلاً:
- أعتقد أن من الأفضل أن اذهب الآن …
ووقفت … ولما لم تجب، خطر في باله سؤال لم يتردد في إلقائه، بلهجة لم يستطع أن يجعلها طبيعية:
- لماذا لم تعطني النقود في الصباح …؟
أجابت مبتسمة كمن تعتذر:
- لم تكن النقود متوفرة لدي …!
وذاب في ملابسه، وشعر كمن يسكب على وجهه سطل من الماء البارد. ورمقها بنظرة ثاقبة حائرة، ولكي يزيل ما رسب في أعماقه من شكوك سأل في لهجة حيية:
- ألم يكن من الممكن الحصول عليها خلال النهار؟
ونظرت في دهشة من سؤاله وقالت:
- نعـم … ولكني كنت غائبة عن البيت، ولم أحضر إلا منذ قليل …
وعندما رأته متحيراً، سألت وما زالت الدهشة ترتسم على وجهها:
- ولكنك حصلت على النقود أخيرا … فماذا تقصد بكلامك؟ …
تلعثم لحظة ثم قال:
- كنت أفكر … أنني لن أستطيع شراء الدواء هذه الليلـة …!!