الإهداء:
إلى التي تشرق صورتها في قلبي كما الشمس
إليك يا جدتي ..
************
كنا خمسة أطفال أبناء عمومة،تتراوح أعمارنا بين الثامنة والعاشرة ، نلتقي خلال العطلة ، في بيت جدي بالبادية الممتدة بين سهول تادلة، على ضفاف أجمل باحة من باحات ذكرياتي..
كنا صغارا، نعدو فلا نكل ،ونلهو فلا نمل ،نتسلق الشجيرات،ونغمس أقدامنا في وحل أمنا الأرض،كأننا نأخذ كفايتنا من الحب، ونطفئ ظمأ الشوق إليها، نتيه بين مزارع الفول، والسمسم ،والقطن ،والشمندر..نلتهم مايصلح منها للالتهام كالجراد، وندفن النفايات تحت التربة كي لا يكتشفها عمي مصطفى، خلال جولته التفقدية في المساء..
كان الفضاء لا يتسع إلا لصرخاتنا وهي تعانق شدو الطيور،كنا نحلق بأجنحتنا بعيدا فنعانق السحاب، نعانق الشمس، ثم نسقط على العشب الوثير، نقهقه كما العنادل..صور عزيزة تمر أمامي بكل تفاصيلها كما الشريط..
وكانت جدتي" زهرة" زهرة في بستان طفولتنا ، وعلامة مميزة في مسار ذكرياتنا، تخرج رقعتها الصوفية وسبحتها ،وتجلس تحت الزيتونة، زيتونتها، والويل لمن سولت له نفسه التبول تحتها، او مجرد اللهو بقربها ،كانت زيتونة موقرة وقار وجهها الحبيب..
كنا نرتع نرتع وحين نتعب، نتحلق من حولها لأخذ استراحة قصيرة، فتملي علينا أفكارا وخططا للعب ،وتارة أخرى تحكي ألوانا من طفولتها، فتتنهد تنهيدة عميقة:إيه لولا العجز لكنت ركضت بينكم، وسبقت أسرعكم. ولكنت اختبأت بين الحشائش، ولم يجد لي أثرا ذكيكم..لكن سرعان ما نتفرق من حولها ،منطلقين إلى عالم أرحب من عالمها..
وكان لجدتي طقم أسنان، وكان هذا الأخير علامة أخرى من علامات طفولتنا ،وشامة من شامات ذكرياتنا..
كان الطقم يضيع منها، فتسخرنا للبحث عنه ،وتخصص للذي يجده بيضة .
نتسابق في رحلة البحث عن طقم جدتي، نركض في كل الأرجاء التي قد تكون مرت منها- وهي تدب كالسلحفاة-
فنسمعها تقول:واهيا ،لا تركضوا بقوة ،قد يتكسر الطقم تحت أقدامكم .
نتلطف قليلا ، ونصير نمشي على رؤوس أصابعنا ،خوفا على الطقم النفيس من التكسر..
وبينما نحن مشغولون بالبحث، نسمع صوت خالد وهو يصيح:جدة جدة هاهو لقيتو ورا الدار
نعود أدراجنا مهزومين ،وقد ضاعت البيضة منا.
نولي وجوهنا ناحية زيتونة الجدة ، فنراها وقد استلقت على جنبها ،وغطت في نوم عميق ،وخالد يمد لها الطقم ويزحزحها من كتفها: جدة جدة فيقي هاهو لقيتو..
عبثا حاولنا إيقاظها ،بقيت وخالد بجانبها، بينما ركض الآخرون نحو الدار لنقل خبر نومها.
ظلت جدتي وشما في الذاكرة ،وظل طقمها المخبأ تحت السرير وشما آخرا يؤكد لي خبر موتها.