"يجب أن أرجع إلى ذاتي حين أريد معرفة الغير، فلا يمكن لي أن أفهم خوفه وكآبته وانفراده وأمله وحبه إن لم أشعر بخوفي وكآبتي وانفرادي وحبي، فإذا لم أشارك الغير مشاعره، فإنني سوف لا أستطيع أن أعرف عنه الكثير" (إريك فروم)
اشرح مضمون هذه القولة وبين حدودها.
**
تثير هذه القولة موضوعا ينتمي لصميم الفلسفة الحديثة، على الأقل ابتداء من الفيلسوف الألماني هيجل، وهو موضوع الغير، وبالتحديد المسألة المتعلقة بمعرفته. ويتلخص موقف صاحب القول أو أطروحته في اعتقاده بأن الغير لا يقبل المعرفة إلا عبر تجربة الذات. فهل معرفة الغير ممكنة أو مستحيلة؟ وإن كانت ممكنة، وهو ما يدل عليه موقف هذا الفيلسوف، فبأية وسيلة تتم؟ هل باعتماد الذات كمرجع ومنطلق وأساس؟ هل بمشاركة الغير مشاعره المختلفة؟ وهل هذا أمر ممكن إذ يفترض تشابها وتماثلا في التجربة بين الغير والذات؟
إذا كانت معرفة الأشياء والحيوانات لا تطرح مشاكل فلسفية فإن ذلك يعود لكونها معرفة ممكنة ومجربة ويمكن التحقق علميا عبر تاريخ العلوم من صدقها وصلاحيتها، وهذا يعني أن الإنسان كذات مفكرة وواعية جربت معرفة المواضيع الخارجية التي لا تتميز بالمميزات الإنسانية ونجحت في التحكم فيها. إلا أن الغير، أي الإنسان الآخر الذي يقابل الذات هو الموضوع الشائك والذي لا يقبل أن تطبق عليه المناهج والطرق التي تم استعمالها في معرفة المادة بكل أنواعها.
وحينما يتحدث صاحب القولة عن الإنسان ذاتا أو غيرا من باب المشاعر والعواطف (خوف، كآبة، انفراد، أمل، حب... ) فإن ذلك يعني أن الإنسان لا يحدد ولا يعرف بالجسم، لأن الجسم أمر مشترك بينه وبين الحيوانات، كما أن الطب والتشريح نجحا منذ زمن بعيد في معرفة الجسم ومعالجة أمراضه والتحكم في سيروراته.
إن الإنسان المتمثل في الغير هو قبل كل شيء وعي وفكر ومشاعر، لذلك فصاحب القول يرى أن اعتبار الذات مرجعا ومنطلقا لمعرفة الغير هو الحل الوحيد لتحقيق ذلك، لأن الوعي يظل أمرا متميزا رغم وجوده داخل هذه الكتلة اللحمية التي هي الجسم، فالوعي لا يرى ولا يلمس، كما أنه متغير وله فعل وليس منفعلا فقط. والعودة إلى الذات لا تعني إلا نوعا من المشاركة في المشاعر والأحاسيس.
فالعزلة أو الإنفراد مسألة إنسانية حيث لا يشعر الشجر أو الحجر بالعزلة بل حتى الحيوانات فهي تحتاج للتواجد في قطيع وليس في جماعة، وذلك لسبب غريزي، بينما الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعاني نفسيا وعقليتا من العزلة (ولنتأمل مغزى السجن).
كما أن الحب والأمل والخوف والكآبة هي أمور لا تتعلق بما هو مادي أو طبيعي بل أساسها الثقافة والجماعة والوعي والمشاكل المرتبطة بالموت والأصل... إن كل هذه الخصائص لا يمكن إدخالها لمختبر أو ضبطها بآلات وحواسيب أو تحليلها كيميائيا... إن الحل الوحيد لمعرفة الغير هو أن ننطلق من مشاعرنا التي هي مشاعره، وأن ننطلق من تجارنا الذاتية التي تفتح لنا أسرار تجاربه.
إن الحجج والأدلة كثيرة على صحة موقف صاحب القولة، فعلوم النفس لم تتمكن من إيجاد مناهج دقيقة لمعرفة الذات البشرية بل انحصر دورها في معالجة الخلل دون أن تستطيع تقديم وصفة عامة للجميع.
كما أن وجد الأدب والسينما يدللان على أنها وسيلتان أساسيتان للدخول إلى أعماق الذات الإنسانية.
لكن، هل هذا الموقف الفلسفي يحظى بإجماع الفلاسفة؟ ألا توجد مواقف مخالفة تشكك في إمكانية ما يدافع عنه صاحب هذه القولة؟
هناك من الفلاسفة من يدافع خلافا للموقف السالف عن استحالة معرفة الغير بالاعتماد تحديدا على الذات وتجاربها لأن ذلك لا يعني إلا تجاهل خصوصيتها والاعتداء على ما يميزها. فغاستون بيرجي مثلا يشبه الذات بسجن مغلق، وبعالم سري وبقلعة حصينة لا يمكن لأحد ولوجها. فكيف يمكن أن ننطلق من تجربة خاصة لمعرفة تجربة خاصة أخرى؟ إن هذا الأمر بالنسبة له هو نوعى من الإسقاط وإغراق في الذاتية، وتجاوز لحدود الذات ومميزاتها.
فبالرغم من أن الحزن والكآبة والعزلة والحب مشاعر مشتركة بين البشر فإنها رغم ذلك لا تعاش بنفس الطريقة ولا بنفس الحدة ولا لنفس الأسباب. فلو كانت مجرد معطيات غريزية لما وجد إشكال بصددها أصلا، وبما أنها معطيات ثقافية فإن الاختلافات في الإحساس بها وعيشها هي بالتحديد ما يميزها.
ولعل ما لبرانش هو الفيلسوف الذي وقف موقفا مناقضا لموقف صاحب القولة حيث دعا إلى عدم الاعتماد على المشاعر الذاتية لمعرفة الغير. بل ذهب إلى حد عجز الذات عن الإحساس بالألم الجسدي للغير كصديق، لأنها في مواساتها له لا تشعر بنفس الألم الذي يشعر به، فالغير يتألم لسب معين بينما الذات لا تتألم إلا لتأثرها بألم الغير.
في نظري الشخصي، تعتبر مسألة معرفة الغير مسألة شائكة ومعقدة يتداخل فيها الموضوعي بالذاتي والعقلي باللاعقلي، لذلك لا بد من أخذ كل المصادر التي تيسر معرفة الغير بعين الاعتبار، أي التجارب المختلفة، منجزات العلوم، الإبداعات الفنية وكذا التجارب الخاصة بالذات دون أن يؤدي ذلك لحرمان الغير من خصوصياته واختلافاته.
وفي الأخير يمكن أن أستنتج أن موضوع معرفة الغير يهدف إلى تحصين خصوصية الإنسان من كل المحاولات التي تهدف إلى تنميطه وجعله موضوعا عاديا أو مجرة آلة طبيعية يمكن التحكم فيها عبر المعرفة ولنا في الخيال العلمي خير دليل على ذلك