امرأتان في مملكة الصمت
جرّت صاحبتها:
لماذا لاتريدين العودة إلى الحياة؟
مرة أخرى؟ لا!
وتأملتها هالة وهي تسحب يدها وتنظر إلى سكان مملكة الصمت. أتفترقان بعد عشر سنوات من الجيرة؟ تركتها تنصرف إلى ماحولها ذاهلة. وخمنت ماتفكر فيه. نعم، انقلب الناس فجأة، كأنهم خبأوا رغبات سرية، دفنوها في أعماق بعيدة!
نودي أمس في مملكة الصمت: "من يرغب في العودة إلى الدنيا بشكل آخر، فليقف في الجهة اليمنى! ومن يرغب في انتظار الصراط والحساب فليقف في الجهة اليسرى! في السادسة صباحا تفتح نقاط العبور!" نظرت هالة إلى يمينها، ففاجأتها جموع الراغبين في العودة إلى الحياة. هرع إلى هذه الجهة حتى اولئك الذين عاشوا دهرا في مملكة الصمت وألفوا قوانينها، وشفيوا من الغيرة وحب المال وزينة الدنيا. قالت لصاحبتها: ياأمل، هذه هي الحقيقة! فنظرت أمل إليها عاتبة: أمس لم تكن هذه هي الحقيقة! وأنت أيضا لم تكوني هكذا! بماذا ترد؟ صمتت وتأملت صاحبتها، وتابعت مايشف من أفكارها.
عادت إلى أمل تلك العاطفة المنسية، الذهول. كانت القاعدة أن الامتحانات الصعبة في الدنيا. وأن امتحان مملكة الصمت الصعب هو الأيام الأولى، وقت تكون الدنيا عالقة بعد بروح القادمين منها! "ما بال هؤلاء يتسابقون على العودة إلى تلك المهجورة وقد نجونا من بريقها!" التفتت وفحصت الوجوه حولها. أبمثل هذه السرعة تغيرت ملامح الأشخاص الذين عرفتهم؟ تبدلت حتى قاماتهم وحركتهم، فبدت فيها الرغبة في الانتقام، والشهوة إلى المال، والعطش إلى المتعة. ورأت اولئك الذين كانوا يتنزهون أمس منصرفين إلى ضوء القمر في مملكة الصمت، يحاولون أن يتقدموا على أصدقاء الأمس ليأخذوا دورهم. بل سمعت حارس المقبرة يعلن لهم في ترفع: "لاتتزاحموا! الفرص كثيرة. لن يؤثر الدور على نوع مصيركم!" انتصر الحارس عليهم إذن! هم أنفسهم أعادوه حارسا، يأمر ويمنع!
نعم، عادت الرغبات! لذلك عاد التملق والنفاق والضعف والحسد! تذكرت أمل ماتركته في آخر أيامها في الدنيا، أيام قيل: "عصرنا يؤشر إلى انهيار القيم الأخلاقية والعواطف الإنسانية. يقتل الناس، تقصف المدن، ولايستنهض ذلك حتى الدفاع عن النفس!"
ياأمل، لماذا تستعيدين الآن كل ذلك؟ ألم نتركه عشر سنوات؟
تسألينني ياهالة، أنت العائدة إلى الدنيا!!
استدارت أمل! مسكينة! أعرف عم تبحثين! تبحث أمل عن الطرف الآخر المنسي، عن الذين اختاروا الصراط! لاتتبين أحدا منهم! فتقول لنفسها: لعلني لاأراهم.. تحجبهم عني كثافة الراغبين في العودة إلى الدنيا! لا، ياأمل! لاأحد هناك، لاأحد حيث تبحثين! يخجل حتى الراغب في تلك الجهة من الإعلان عن قصده! من يجرؤ على مقاومة هذا المد العظيم؟ من يجسر علىالايمان بأنه هو المصيب وهذا الجمع الكبير مخطئ؟!
تراجعت أمل خطوة إلى الوراء! قالت لنفسها: ياللهول! ووضعت كفها على عينيها! أيفسد الناس حتى هنا! أينهارون بنداء واحد فقط؟ أتفقد ويفقدون حتى هذا المكان الآمن الأخير؟ جرتها هالة. فسحبت أمل يدها: إلى هناك مرة أخرى؟ لا!
في آخر الأيام هناك سهرت أمل الليل كله تفكر في حياتها. قالت لها بنتها: تركت الجامعة! لافائدة من الدراسة! لن أقبل بعض الآلاف من الليرات في الشهر! سأبحث عن شغل يعطيني ماأستحقه! تستحقينه؟ هل اشتغلت زمنا، وتعبت، وتفوقت فصرت تستحقين أكثر مما تأخذينه؟ تريدين القفز إلى فوق دون تعب؟ آه هذه الشابة، أيضا، تريد من أول العمر الوصول إلى آخر درجات السلم! هذه الشابة، أيضا، تبحث عن الجني السريع وترمي الهوى ولذة التعب! لم أكن أقوى من الدنيا لأغريها بغير ذلك!
اأمل لاتستعيدي ذلك! في أول لقاء بيننا هنا حكيت لي عن خيبتك. ثم شفيت كما يشفى سكان مملكة الصمت! في تلك الليلة فوجئت أمل بعقل آخر لاعلاقة لها به. لم تعرفه ؟ بل لم تعترف به! خيل إليها أنها ستلجأ إلى ابنها. لكنه رجع في تلك الليلة متأخرا. ورأته يربط عصبة على رأسه. من أين استوردت ياابني هذه العصبة؟ وتضع قرطا في أذنك؟ فلتجعل شعرك ضفائر كالبدو القدماء، كي أشعر بأنك نبتة في أرضك!! أرضي؟ أنت ياأمي من زمن آخر! لاتشعرين بأننا في زمن بعده! همك العمل! هواك: "بلادي"! لاتوجد بلاد مغلقة اليوم! هذا زمن اللاحدود! قولي لي بماذا كافأك بلدك؟ وبماذا أفادك هواك؟ ركض الناس أمامك وسبقوك. بنوا البيوت وبدلوا السيارات على حساب بلادك! تجولوا في الدنيا على حساب بلادك! غيروا "بلادك" وأنت تحملين صورها وتركضين! تركضين إلى الخلف! بلادك صورة في خيالك، لم تعد توجد في الواقع! آه، من رأى شابا لم ينبت شاربه بعد يكلم أمه هكذا؟ شابا يدين زمنا لايعرفه، وينتسب إلى زمن لايعترف به؟ ماذا قدمت من عمل كي تصبح ذا آراء، ياابني؟ مازلت تأكل على سفرة أمك ياحبيبي! نسيت ياأمي كلماتك؟ كنت تقولين: الرأي حق الإنسان؟ تحاربني إذن بكلماتي وفكري ياابني؟ هذه موضة العالم اليوم! من فؤادي قتلوني ياحبيبي! لكني رفضت الموت! رفضت الهزيمة هناك. لم أعرف أنك طريق الهزيمة الآخر إلي! هربت منك الحياة ياأمي وأنت تبحثين في الهزيمة والانتصار!
سهرت أمل يومذاك حتى الصباح. كان يصعب عليها أن تعترف بأنها مهزومة. لاتوجد هزيمة قبل المعركة الأخيرة! وقبل الموت لاتوجد معركة أخيرة! لكنها يجب أن تخرج من الحفرة! أشعلت الضوء، وتذكرت الدنيا التي بنتها قشة، قشة. تذكرت حتى الأيام التي كانت تشتهي فيها النوم ورأسها يسقط فوق مكتبها، وهي تنهض على رؤوس أصابعها فتغسل وجهها بالماء البارد لتصحو، وزوجها وطفلاها نائمون. تذكرت اندفاعها وحماستها في البيت والشغل. كانت تردد وهي تلهث أن الحياة أكثر سعة من الولد والزوج. وأن الحياة الواسعة هي التي تغمر بيت المرأة بالحب.
خيل إلى أمل في تلك الأيام أن الدنيا الواسعة انفجرت. "في عمري لن تعود! ستعود فيما بعد!" ولكن لماذا ينفجر بيتها؟ لماذا تنهمر فوقها حجارته وتسقط فوقها أشجاره؟ قالت: الناس كالعالم، يتسابقون على الانتحار. لايفخرون بما فيهم من جمال، بل بما فيهم من بشاعة. كأن الحياة تهرب منهم فيحاولون أن يصيدوا مالهم ومالغيرهم فيها! يدعس الواحد منهم على الآخر ليأخذ لقمة زائدة، وليرتفع مقدار إصبع!
ومع ذلك لم تترك الحياة إلا يوم شعرت بأنها أصبحت دون مكان. قالت: لاأحد يحتاجني، لافي البيت ولاخارجه! يجب ألا آخذ من الشمس والهواء حصة آخر! يومذاك، فقط، ماتت.
سحبت أمل يدها من يد صاحبتها:
لاأريد العودة! لافائدة من العودة في شكل آخر إذا كانت إلى تلك الدنيا نفسها!
لاتبقي هنا ياأمل! أمامك فرصة لتختاري حياة جديدة! اختاري أن تكوني شجرة أو طيرا، إذا مللت مصير البشر! انظري! يرحلون كلهم إلى الدنيا! فهل تبقين هنا وحيدة؟
سحبت أمل يدها مرة أخرى:
سأبقى هنا، وستعودون إلي! وأدارت إلى الجمع ظهرها.
تأملتها هالة. نظرت إلى ظهرها المستقيم. كانت أمل تمشي في الاتجاه المعاكس وحدها. تجري بكبرياء في مجرى مستقل، ضيق، بجانب مجرى هادر يتدفق عكسها. بدا ظهرها المستقيم وسط جمع يحاول الواحد فيه أن يتقدم على الآخر. وشعرت بأن تلك المبتعدة أقرب إليها من هؤلاء المتسابقين على العودة إلى الدنيا. لكن قرارها، هي أيضا، كان حاسما.
في الليلة الماضية بعد أن سمعت المنادي يغري سكان مملكة الصمت بالعودة إلى الحياة، فكرت بالدنيا القديمة التي تركتها. وتبينت أن عشر سنوات في مملكة الصمت قد انتهت في برهة. عاد إليها كل ماتركته. شعرت بالرغبات القديمة نفسها، بالخيبة القديمة نفسها، وبالأفراح القديمة نفسها! مشت في الممرات التي هجرتها عشر سنوات. وأدهشها أن تتبدد مملكة الصمت التي بدت لها مستقرا هادئا، حلما يصعب حتى على الأحياء أن يرسموا تفاصيله. نهضت، ومشت في ضوء القمر. جلست تحت سروة طويلة. وتساءلت: أيمكن حقا أن أختار العودة إلى الدنيا؟ وأن تختار صاحبتي أمل مملكة الصمت؟! كان يفترض العكس! وعادت إليها التفاصيل..
كم كانت جميلة هناك! قال شيخ مرة وهي تمر قربه: سبحان الخالق! فابتسمت.. لم يبق إلا أن يحبها شيخ! لم لا؟ ماأكثر الذين أحبوها! في الليلة الماضية تذكرت ثلاثة رجال منهم. وانصرفت إلى استعادة التفاصيل. في البرهة الأخيرة كان يحدث مايباعد بينها وبين المحبوب. لكن قبل ذلك.. كم كان الحب جميلا، وكم كانت مرغوبة! استسلمت للصور، وغمرتها متعة ناعمة كالمخمل.
خففت من الضوء. وبدأت تكتشف أن يده تلتهب كلما صافحته. وعرفت أنه قال لأصدقائه: مربوط بشعرها، تجرني أينما شاءت وأتبعها مطيعا! كان يبدو سعيدا، منتشيا، وهي تمشي إلى جانبه. وكان يظهر أنه فخور بها. تحدق الآن فيه، تتأمله، تفحصه. ثم تقول: كان حبه حقيقيا! لكنها كانت صغيرة خلية البال، وكان هو مرهقا. عاش ضعف عمرها. يوم أعلنت عن فرحها لأن فرش البنفسج نزل إلى السوق، وتحدثت عن مواسم ستظل تنتظرها، قال مسرعا: مازال العمر لك جديدا. أنا، تكاثر علي! لم يخطر لها أنه تساءل: يوم ينثني ظهري، ألن يغريها شاب في مثل عمرها؟ كان ذلك يوم استوقفه صديقه في الطريق وهي معه، فقال له معرّفا: الخطيبة! فلمحت في عيني صديقه ذهولا وخيبة.
كان فراقهما كالصاعقة، مفاجئا، سريعا، ومحرقا. صادفا مرة قريبتها. فعرّفته بها، لكنها لم تقل لقريبتها: الخطيب، بل قالت في احترام: الأستاذ! كيف التقى بقريبتها فيما بعد؟ كيف أرسل أهله إليها وخطبها؟ تجهل ذلك! أعلنت تلك الخطبة فجأة! يمر الآن موكب الألم أمامها. وترى نفسها وهي تكتم بكاءها. هل كانت حزينة على الحب؟ بل أكثر من ذلك! كانت مخدوعة، لاتستطيع أن تحتفظ حتى بذكرى المحبوب. كان يجب أن تمزق تلك القطعة من حياتها وترميها. بعد سنوات طويلة فهمت أن صفحات الحياة لاترمى. وتذكرت أنه جلس مرة أمامها وقال:هل ستحبينني بعد عشر سنوات؟ كانت صبية لاتعرف بعد تغير الرغبات. ولم تر من قرب الموت والشيخوخة. ولم تجرب بعد تحرر النظرة من المحبوب، وطيرانها إلى أفق ممتد بعده. أفهمها العمر فقط سطوة الرغبة، وقرار العقل. لكنها يوم فهمت ذلك رأت ذلك الرجل كما ترى حالة من الضعف. رجلا جرفه هواه، أحب شابة في عمر بنته، زين بها ياقته في زهو، ثم اختار بعقله زوجة لايمشي معها!
هل برأته، أو أبعدته، فيما بعد، كي تدافع عن ذلك الجزء من حياتها؟ بعد شهر من الفراق صادفته في الطريق، ورأته ينحني لها في احترام. كادت تضحك! وعبرته خفيفة الخطوة. وفهمت أنها طوته.
كان الرجل الثاني في مثل عمرها. طوله يناسب طولها. كانت تردد ضحكته ويردد ضحكتها. لم يظهر بالكلمات زهوه بأنها تحبه. سعادته بها كانت تظهر ذلك. لكنه كان ذاهلا أمام العالم. يوم أحبها كان كل منهما يعرف أنه مايزال يستند إلى أهله. ومازالت أمامهما سنوات من الانتظار. لابأس! فكل منهما موجود في أفق الآخر! ولكن لماذا كانت تبعد شعورها بأنه موثق وثقيل؟ كانت قدماها لاتمسان الأرض كأنها تطير. آه، من يجهل جمال الحب بين شابين في عمر واحد!
يوم افترقا تذكرت أنه قال مرة كأنه باحث: لايستطيع الرجل أن يضبط نفسه. لذلك قد يقيم علاقة عابرة ولو كان عاشقا. سألته مازحة: والمرأة؟ رد: المرأة من طبيعة أخرى! لم تتوقف عند حوارهما الخاطف، لأنه لم يكن الرجل الذي تحدث عنه، ولأنها لم تكن المرأة التي يجب أن يتميز عنها الرجل.
كانت واهمة! اعترف لها بأنه في غيابها خلال الصيف أقام علاقة خاطفة لم تمس حبه لها! سألته: من هي؟ اعترف.. صديقتها!
ابتعدت عنه. لايزال يحبها؟ ياللحب الذي لايصمد إذا غابت شهرا عنه! لكنها فكرت طويلا في تباين طبيعة الرجل وطبيعة المرأة! طبيعة؟ قرر الرجال ذلك كي تزيد حقوق الرجل، فيلهو وهو مطمئن إلى "طهارة" امرأته. ويكون له دائما مأوى مفتوح الذراعين! هكذا يصبح الحب سجنا تقبله المرأة وينجو منه الرجل! لحقها. لكنها لم تلتفت إليه. وانشغلت بالتفكير: كان هذا الحب المكتوم الذي انثنى عليه شابان منسوجا إذن في العالم الذي ظنته منصرفا عنهما! تدخل العالم الغريب البشع إذن في حبهما! ولم يكن ذلك العالم هو ماحولها، بل جميع العوالم السابقة التي لم تعرفها هي وربما لم يعرفها أهلها! تبعها. لا! لاأريد قطعتين! أحكم أنا فؤاده، وتحكم الطبيعة سلوكه! وقالت لنفسها: نجوت! وابتعدت عنه وهو مايزال يتبعها. كفى! قال: أيتها الهاجرة! آه، إذن أنا الهاجرة!
عندما أتى الحب الأخير فحصته من بعد بكل مالديها من المقاييس. راقبت لهفته وخيبته وأساه. تركته يلوب حولها. لم تكن مستعجلة. وكم كان مجنونا وهو يعلن حبه! وقف مقابل بيتها والثلج يهطل. قال الجيران: مجنون.. أو مكلف بمراقبتنا! رأت فوق رأسه قبعة من الثلج، وقالت هي أيضا: مجنون!
ثم عادت الأشواق تبدل مقاييس الأيام، وتمد الساعات، وتسمعها أصواتا في رعشة الغيمة على الشفق، وفي تنفس الأشجار، وفوح الزنبق، ورنين القمر. وعاشت سنة مع مواسم المضعف والنرجس وزهر الليمون، مع المطر والزعتر والطرخون. وبدا لها الباذنجان رائعا، ونضارة الكوسا مدهشة. أصغت في متعة حتى إلى صوت الحنفية التي تقطر. وأصبح العمل ممتعا، ولكل من الساعات معنى. سألته مرة مازحة: إلى متى ستحبني؟ قال: حتى ينتهي عمري! فابتسمت. من يحكم مغيبه! لكن جوابه ممتع!
لم يعترف لها. اعترفت لها صديقتها! باحت لها بأنه يحبها! روت لها: قال لي سأحبك حتى ينتهي عمري! وسألتها: مارأيك فيه؟ رأيها؟ ليست لديه كلمات جديدة يقولها لحبيبة جديدة! مسكين! تسألها رأيها فيه؟! رأيها فيه أمس أم اليوم؟
لم تشعر بالحزن عليه. حزنها أكبر منه! فقدت الثقة.. بالمواطن! جرى حوار بينها وبين نفسها، قالت:
تقصف القنابل المدن، ويتفرج العالم كل مساء على حرائقها وهو يتناول عشاءه، كأنها موقد! فهل تسلم روح الإنسان وعواطفه؟ يتراكض الناس، وخلال الركض يدعسون فؤادهم..
تبرئينه ؟
لا! أفسر لماذا ينهار الضعفاء. يتصورون أنهم إذا ركضوا يستطيعون أن يخطفوا قطعة من الحياة. يعجزون، فيتناولون امرأة إضافية.. لايعرفون أن الحصص مقدرة، ولن ينالوا إلا ماقرر لهم!
لكنها يومذاك تبينت أن المحبين لايبتعدون. يختارون صديقة حبيبتهم أو قريبتها. وتذكرت أن زميلتها في المدرسة أحبت شابا أحبها ثم تزوج صاحبتها. وأن جارها أحب الأخت الكبرى لكنه تزوج الأخت الصغرى.لابد من سبب لذلك..
لم تجد الجواب على سؤالها في الكتب. طبعا يجب أن تبقى بعض جوانب الإنسان مجهولة! وإلا لما استمرت الدراسات. يجد أساتذة الجامعات صعوبة في اختيار موضوعات لطلابهم. فإذا لم يضطرب العالم وتنهار الروح كيف يجدون موضوعات للبحث العلمي!
وجدت الجواب صدفة، وهي تلمح فلاحا يستند إلى الحائط وزوجته تفرش البرغل على السطح. قالت: ربما كانوا مثل هذا الفلاح! لاهمة للمحب، لذلك يتناول القريبة من يده! بذل الجهد في الحب السابق، ولايستطيع أن يكرر ذلك! عند المرأة التالية، يهمد، يستقر، وهو متوج بالمجد، مزين بوسام الحرب الذي يشهد على جنونه. لايستطيع أن يعيش ولهان طول عمره!
ــ ربما، ربما. لكن يبدو لي أن في الرجل المعاصر أزمنة سابقة، قد يكون منها عصر العبودية، وقت كان يملك زوجته وأخواتها ويملك حتى بناته!
ــ لاأشعر بأن في روحي عصور العبودية! أشعر بأن فيها أزمنة لم تصل بعد !
خيل إليها يومذاك أنها على ذروة جبل تشاهد منه الناس من بعد وتفحص حياتها وحياتهم. لم تشعر بالغيرة، بل شعرت بالأسى لأن اولئك الرجال يتبددون. يمضون دون أن يتركوا ذكريات. وهم؟ هل يستطيعون أن يخرجوا من صناديقهم صورا تؤكد أنهم عاشوا، يوم يصبح العمر وراءهم، ولاشيء يثبت أنهم عبروا الحياة غير مايتذكرونه ومن يتذكرهم؟
أدهشها أنها لاتستطيع أن تستحضر أي لقاء به. لم توفق حتى في استحضار ملامح وجهه! لكنها من تلك الذروة وصلت يومذاك إلى مملكة الصمت.
فلماذا تترك هذه المملكة الهادئة، وتعود إلى هناك؟ لترى الشيب والقامات التي ضمرت حيث كان الشباب؟ لترى محبيها مع صديقاتها؟ لتنوس مرة أخرى بين الأشواق وبين المرارة، وتذوق الأرق وتنتظر أن ينتهي الليل؟ أتعود لتنحني على عملها مجدة تلهث، والمدللات يعبرنها إلى الصف الأول؟ أتعود إلى العالم الذي تركته متفرجا على الحروب وحرق المدن، وهو يكوم كل مساء القتلى والجرحى وضحايا الحوادث واللصوص؟ ويعلق على جدرانه صور الرجال المسؤولين عنه وهم يبتسمون للمصورين؟
لماذا تعود إلى هناك؟ ليعصف بها الوجد مرة أخرى، لتطير بالفرح وتسقط بالحزن، تغلق نوافذها مغبونة غاضبة، ثم تفتحها لتلتقط طرف شعاع القمر، وتستدعي شدو العصافير الدورية، وتغري بفتات الخبز بقايا الشحارير المهاجرة؟
تبينت هالة أن ظهر صاحبتها أمل يبتعد لأنها هي أيضا تمشي.. تمشي مع الجمع في الجهة المعاكسة. تمشي مع ناس يركضون إلى انتقام منعهم الموت عنه، إلى مال لم يكن لديهم الوقت كي يخطفوه أو يسرقوه. وهي؟ تمشي هادئة، خفيفة، إلى عملها الذي غابت عنه، إلى الغبن الذي ستشعر به، إلى الأرق وغدر المحبين..
تنتهي الآن عشر سنوات في مملكة الصمت، حيث مشت في ضوء القمر بين السرو، ورف ثوبها الأبيض في نسيم الليل. لكن ذلك لم يكن قمر الشتاء الذي سعت إلى السطح لتلقاه، وأهلها حول المدفأة يشوون الكستناء. وقصدته في فناء البيت، ومدت جسمها إليه من الشرفة، وهي بقميص أبيض تجمع قبته العالية ضوءه الناصع، وارتعشت من البرد والوجد وهي تسمع رنين أجراسه! عاشت في مملكة الصمت عشر سنوات هادئة كسماء رائقة، دون رعشة في القلب، دون لهفة، دون أشواق. كان ذلك هو الموت!
مشى الجمع إلى نقاط العبور، مشغولا بالمشروع الذي سيضيع به حياته مرة أخرى. بما سينفق فيه أيامه، ويخسر به عمره وهو يتوهم أنه يكسبه. ومشت هي مفتونة بالعودة إلى شمس الشتاء في يوم صاح، لتكتشف أول بنفسج في الحوض، وتتفقد البراعم المبكرة في شجرة الخوخ، لترسم الغيوم على السماء، لتستبقي غروب الشمس، لتقف على الحدّ بين النهار والليل، والضوء يتقدم بكل مافيه من وهج، والليل في جانب من السماء مبهور به.
- أعود إلى هناك!
عند نقطة العبور بين مملكة الصمت والدنيا، أجابت حارس الحدود:
- أعود كما كنت، بالإسم نفسه!