دقت الساعة السادسة صباحاً ، فراح يتقلب على فراشه الوثير ، وهو يتمتم :
- نفذ الرصيد ، نفذ الرصيد ، نفذ الرصيد .
ولما فتح عينيه نظر إلى لوحته الطبيعية الخلابة ، التي تعود على رؤيتها من قصره القابع في الطابق الخمسين ، فوق أحد ناطحات السحاب التي يملكها ، ومن خلف النافذة الزجاجية ، تأمل الشمس البرتقالية تولد من رحم البحر الأزرق العميق ، وتحبوا بحنو لترتمي في أحضان السماء الصافية ، معلنة ميلاد يوم جديد .
لكن هذا اليوم لم يكن عادياً ، فقد كان الإنسان الثري قلقاً ، من هاتف يلح عليه
- نفذ الرصيد ، نفذ الرصيد ، نفذ الرصيد .
نهض من فراشه الوثير ، وأخذ يجوب الغرفة الواسعة، بجدرانها الزرقاء ، وستائرها البيضاء ، وألوانها الخضراء بدرجاته ، جيئة و ذهاباً وهو يفكر في الرصيد الذي نفذ ، وقرر أن يستجيب لهواجسه ، ويتحرى الأمر .
جاءت الخادمة بالإفطار ، بينما هو منشغل بحاسوبه المحمول ، يتصفح أرصدته في البنوك ، ويراجع حساباتها ، وقال للخادمة قبل أن تنصرف :
- أستدعي لي كل المحاسبين ، أريدهم الآن !!
استغربت الخادمة طلبه هذا ، ولكنها أومأت برأسها أن نعم وانصرفت ، وراح هو يواصل البحث ، والتنقيب ، والمراجعة ، حتى إنه هاتف رؤساء البنوك بنفسه ليتأكد ولما تيقن من سلامة أرصدته استراح قليلاً ، وتناول إفطاره ، ولا يزال الهمس في نفسه ملحاً :
- نفذ الرصيد ، نفذ الرصيد ، نفذ الرصيد .
وحضر المحاسبون ، بدفاترهم وهم يرتجفون ، حتى سألهم
- هل يوجد حساب من حساباتي نفذ منه الرصيد ؟
فهز الجميع رؤوسهم أن لا ، فشكرهم وأمرهم بالانصراف ، وهاتف شركة الاتصالات ليستعلم عن رصيده ربما يكون قد نفذ ، ولكنهم أكدوا له أن رصيده لم ينفذ ، فانتابه يأس شديد ، ووضع رأسه بين كفيه ، وراح يفركها ، عسى أن تأتيه بجديد ، وبعد عدة دقائق استسلم وأقنع نفسه بأنه هاجس كاذب ، وغير أكيد .
فأمسك بدفتر المواعيد وراح يقلبه ، ويراجع المواعيد
موعد بعد دقائق
اجتماع بعد ساعة
سهرة هذه الأمسية
غداً في أوربا
بعد أسبوع في أمريكا
بعد شهر في الصين
والإجازة هذا الصيف مع الأولاد في الجزيرة
والعام القادم افتتاح فرع جديد
وإذا بأطراف أنامل قدميه تداهمها آلام مبهمة ، فلم يهتم وراح يواصل ، ازداد الألم وتسللت قشعريرة في قدميه ، وشعر ببرودة شديدة كأنه يتجمد ، فراح يرشف من فنجان القهوة عدة رشفات عساها تدفئه ، ولما لم يعد يشعر بساقيه ، تمرد ، وأبى أن يبقى جالساً ، وحاول أن يقف ، ولما أبت قدميه أن يحملنه ، سقط على الأرض ، وأخذ يصيح
- أحضروا الطبيب ، أنا مريض ، أحضروا الطبيب
وأسرع الخدم يحملنه إلى الفراش الوثير ، والخادمة تستدعي الطبيب ، وانقلبت الغرفة الهادئة إلى مستشفى صغير ، ويأتي الطبيب ، تلو الطبيب ، والإنسان الثري راقداً ، مسجياً على ظهره ، مستسلما لكل من يعبث فيه ، وانزوى الأطباء بركن الغرفة وراحوا يتهامسون ، ولكن فضح وجوههم ، اليأس يملأها .
وراحت القشعريرة تتسلل إلى جسد الإنسان الثري ، وتزحف ببطيء نحو رأسه وهي تقتلع من جسده شيء عميق ، عميق ، عميق ، فراح يصيح مستغيث:
- افعلوا شيئاً ، إني أتألم ، إني أشعر باقتلاع رهيب !!
وأصابه الإغماء ، ثم يفيق ، ويعاوده الألم فيصيبه الإغماء ، ثم يفيق ، حتى جاءته صحوة ، فاعتدل على الفراش الوثير ، وارتسمت على شفتيه ابتسامة الرضا ، وراح يضحك ضحكاً رنانا ، ً مجلجلا ، وتتسلل من مؤقتيه عبرات ساخنة ، وهو يتمتم :
- نفذ الرصيد ، نفذ الرصيد ، نفذ الرصيد !!
- ثم راح في نوم عميق
- انتهى