المجموعة الأولى
1 ـ اللعين
قلتُ مرة للّعين:" ألم تسأم نفسُك الإقامة في هذا الحقل وحيدا منفردا؟"
فأجابني قائلا:" إن لي في التخويف لذة لا يُسبر غورها، ولذا فإني راض عن عملي و لا أمله".
ففكرت هنيهة ثم قلت له:" بالصواب أجبت، فإنه قد سبق لي فخبرت هذه اللذة بنفسي".
فأجابني قائلا:"إنك واهم يا هذا،فإن هذه اللذة لا يعرف طعمها إلا من كان محشوا بالقش مثلي".
فتركته إذ ذاك و انصرفت وأنا لا أدري هل مدحني أم تنقّصني.
وانقضى عام صار اللعين في أثنائه فيلسوفا علامة.وعندما مررت به ثانية رأيت غرابين يبنيان عشا تحت قبعته.
2 ـ الكلب الحكيم
مر كلب حكيم ذات يوم بجماعة من السنانير، و لما دنا منهم رآهم منصرفين عنه و لم يعبأوا بقدومه. فوقف يتأملهم مستغربا أمرهم.
و فيما هو يتطلع إليهم نهض من بين الجماعة سنور بادن تبدو على وجهه أمائر الهيبة و الوقار، فنظر إلى رفقائه و قال لهم:" صلوا أيها الإخوة المؤمنون، فإني الحق أقول لكم أنكم إذا صليتم وكررتم صلاتكم بحرارة يستجاب تضرعكم وتمطركم السماء فئرانا في الحال".
فلما سمع الكلب الحكيم تلك العظة البالغة ضحك منهم في قلبه وارتد عنهم وهو يردد لنفسه قوله:" ما أغبى هؤلاء السنانير وما أعمى بصائرهم عن إدراك ما في الكتب ! أليس مكتوبا، بل أ لم أقرأ أنا و أجدادي من قبل أخبروني أن ما تمطره السماء استجابة للصلوات و التضرعات والابتهالات ليس فئرانا بل عظام؟"
3 ـ حفار القبور
بينما كنت يوما أدفن ذاتا من ذواتي الميتة إذ وقف بي حفار القبور وقال لي:" أنت هو الرجل الفرد الذي وقع بقلبي دون جميع الذين يأتون إلى المقبرة".
فقلت له:" لقد سرني قولك ياصاح،ولكن لماذا وقعت بقلبك دون سواي من الناس؟".
فأجابني قائلا:" إن سواك يأتي باكيا و يعود باكيا،أما أنت فإنك تجيء ضاحكا وترجع ضاحكا".
4 ـ البحار الأخرى
قالت سمكة لأختها:"يوجد فوق بحرنا هذا بحر آخر، وفيه مخلوقات متنوعة تعيش وتسبح كما نعيش ههنا ونسبح".
فأجابتها أختها وقالت:" تلك أوهام ! تلك أوهام ! ألا تعلمين أيتها العزيزة أن كل مخلوق يترك بحرنا قيد قيراط واحد،ويبقى خارجا عنه،يموت في الحال؟ إذن فما هي حجتك على وجود أحياء في بحار أخرى؟".
المجموعة الثانية
ـ 5 ـ
ملابس
تلاقى الجمال و القبح ذات يوم على شاطئ البحر.فقال كل منهما للآخر:" هل لك أن تسبح؟".
ثم خلعا ملابسهما، وخاضا العباب. و بعد برهة عاد القبح إلى الشاطئ وارتدى ثياب الجمال ومضى في سبيله.
وجاء الجمال أيضا من البحر، و لم يجد لباسه، وخجل كل الخجل أن يكون عاريا،ولذلك لبس رداء القبح،ومضى في سبيله.
ومنذ ذلك اليوم، والرجال و النساء يخطئون كلما تلاقوا في معرفة بعضهم البعض.
غير أن هنالك نفرا ممن يتفرسون في وجه الجمال، ويعرفونه رغم ثيابه. وثمة نفر يعرفون وجه القبح، والثوب الذي يلبسه لايخفيه عن أعينهم.
ـ 6 ـ
أغنية الحب
نظم شاعر مرةٌ أغنية حب،وكانت رائعة. وكتب عدة نسخ عنها و أرسلها إلى أصدقائه ومعارفه من الرجال و النساء على السواء، ولم ينس أن يرسلها حتى إلى امرأة شابة لم يسبق له أن شاهدها سوى مرة واحدة، وكانت هذه تقيم وراء الجبال.
وجاءه رسول من قِبل تلك الشابة بعد يوم أو يومين، يحمل رسالة تقول له فيها:"دعني أؤكد لك أنني تأثرت تأثرا عميقا بأغنية الحب التي نظمتها لي.تعال الآن، وقابل والدي ووالدتي، وسنتخذ التدابير التي تقتضيها الخِطبة".
وكتب الشاعر جواب الرسالة، وقال لها فيه:"لم تكن يا صديقتي سوى أغنية حب صدرت عن قلب شاعر،يغنيها كل رجل لكل امرأة".
وكتبت إليه ثانية تقول:"أيها الكاذب الخبيث في كلماتك ! سأقيم منذ اليوم إلى ساعة أجلي ! على كراهية الشعراء جميعهم بسببك !".
ـ 7 ـ
حب وبغض
قالت امرأة لرجل:" أنا أحبك". وقال الرجل:" إنما أكون أهلا لحبك هذا،في قلبي".
وقالت المرأة:" ألا تحبني أنت؟" وحدق الرجل إليها مليا ولم يقل شيئا.
عند ذاك صرخت المرأة بصوت عال:"أنا أكرهك". وقال الرجل:"إنما أكون إذن أهلا لبغضك، في قلبي أيضا".
ـ 8 ـ
البدر الكامل
طلع البدر كاملا،مجيدا،على المدينة،وراحت كلاب تلك المدينة جميعها، تنبح القمر.
إلا أن هناك كلبا واحدا لم ينبح،قال لرفاقه بصوت صارم:"لن توقظوا الموات من سباته،ولن تنزلوا القمر إلى الأرض بالنباح".
وانقطع حينئذ جميع الكلاب عن النباح،وساد صمت راعب. ولكن الكلب الذي كلم الجمع،استمر في نباحه من أجل الصمت،طوال الليل بأكمله.
المجموعة الثالثة
ـ 9 ـ
دموع وضحكات
لقيت ضبع تمساحا في العشية، على شاطئ النيل،واستوقف كل منهما الآخر وتبادلا التحية.
تكلمت الضبع وقالت:"كيف قضيت يومك، يا سيد؟".
أجابها التمساح:"قضيته على أسوأ حال،و إني لأبكي أحيانا في أساي و عنائي،والكائنات من حولي تقول دائما:" ليست هذه سوى دموع التمساح". وهذا يجرحني إلى حد لاسبيل لوصفه".
قالت له الضبع عند ذاك:" تتحدث عن أساك وعنائك، ولكن فكر في أيضا،ولو للحظة. إني لأحدق إلى جمال العالم،وغرائبه ومعجزات بدائعه،وأضحك مستبشرة عن فرح خالص يفعم نفسي،كما النهار يضحك،غير أن أهل الأدغال يقولون:"ليس هذا سوى ضحك الضبع".
ـ 10 ـ
اللؤلؤة
قالت محارة لمحارة تجاورها:" إن بي ألما جد عظيم في داخلي.إنه ثقيل ومستدير، و أنا معه في بلاء وعناء".
وردت المحارة الأخرى بانشراح فيه استعلاء:"الحمد للسماوات و البحار. لاأشعر في سري بأي ألم. أنا بخير وعافية داخلا وخارجا".
ومر في تلك اللحظة سرطان مائي،وسمع المحارتين وهما تتساقطان الحديث،وقال للتي هي بخير وعافية داخلا وخارجا:" نعم ! أنت بخير وعافية. ولكن الألم الذي تحمله جارتك في داخلها،إنما هو لؤلؤة ذات جمال لاحد له".
ـ 11 ـ
جسد وروح
جلس رجل وامرأة بجانب شباك يطل على الربيع،وكانت جلستهما تجعلهما جد متقاربين، فقالت المرأة:" أنا أحبك.أنت جميل،وغني،وأنت أبدا ودائما على جانب كبير من الجاذبية".
وقال الرجل:"وأنا أحبك. أنت فكرة جميلة،بل أنت شيء تسامى عن أن تناله يد.أنت أغنية في حلمي !".
غير أن المرأة أدارت وجهها عنه وانفلتت غاضبة وقالت:"أرجوك أيها السيد أن تفارقني منذ اللحظة،فأنا لست فكرة،ولا شيئا يطوف بك في أحلامك.أنا امرأة وأود أن تشتاق إليّ،وأن تشتهيني. أنا زوجة وأم لأطفال لم يولدوا بعد".
وافترقا...
وقال الرجل في سره:"ها هو ذا حلم آخر تبدد منذ الآن،وتحول إلى ضباب".
وقالت المرأة، وهي تتأمل وحيدة:" ما لي ولرجل يحوّلني إلى ضباب وحلم؟".
ـ 12 ـ
اللعنة
قال لي مرة بحار عجوز:" لقد مضى على ذلك البحار الذي خطف ابنتي وهرب ثلاثون عاما. ورحت ألعنهما في قلبي، إذ كنت لا أحب في هذا العالم أحدا،سوى ابنتي.
"ولم يكد يمضي زمن غير طويل على ذلك، حتى غاص البحار بمركبه إلى قاع البحر،وخسرته،وخسرت معه ابنتي الحبيبة.
"والآن أنظر فيّ إلى قاتل شاب وفتاة. إنها لعنتي التي قضت عليهما. وإني لأرجو مغفرة الله و أنا في الطريق الآن إلى المقبرة".
هذا ما قاله العجوز.ولكن لهجته كانت تنم عن زهو وافتخار، ويبدو أنه لايزال فخورا بقوة لعنته.
ـ 13 ـ
الرمانات
كان لرجل مرة عدد وافر من أشجار الرمان في بستانه. وكان في أكثر من خريف يضع رمانه على أطباق فضية خارج مسكنه،ويضع على الأطباق علامات يكتبها بيده:"خذ واحدة لقاء لاشيء،أهلا بك".
غير أن الناس كانوا يمرون بالأطباق، وما من أحد يأخذ شيئا من الثمار.
عند ذاك فكر اتلرجل في نفسه، حتى إذا أقبل الخريف التالي لم يضع رمانا على أطباق فضية خارج منزله،ولكنه أبرز العلامة الآتية وكتبها بحروف كبيرة:" لدينا هنا أفضل رمان تنتجه الأرض،ولكننا نبيعه بثمن أغلى من أثمان سائر الرمان".
وتدفق الناس عليه بعد ذلك من رجال الجيرة ونسائها يشترون.
ـ 14 ـ
الحوت و الفراشة
وجد رجل وامرأة نفسيهما ذات مساء، معا في عربة مسافرين،وكانا قد التقيا من قبل...
كان الرجل شاعرا، وفيما هو جالس بجانب المرأة، قصد على تسليتها بقصص ابتدع بعضها،وسمع بعضها الآخر.
ولكن المرأة غفت بينما كان يسرد عليها قصصه. وعثرت العربة فجأة وأفاقت المرأة،وقالت:" أنا معجبة بتفسيرك لقصة يونس و الحوت".
قال الشاعر:" غير أني كنت اقص عليك يا سيدتي قصة أنا وضعتها،حول فراشة ووردة بيضاء،فكيف انتقلت واحدتهما إلى الأخرى !".
ـ 15 ـ
على الرمل
قال رجل لآخر:" كتبت بطرف حذائي،عندما ارتفع مذ البحر،سطرا على الرمل. ولا يزال الناس ينوقفون عنده ليقرأوه،و يحرصون على أن لا يمحوه في المستقبل شيء".
وقال الرجل الآخر:" وأنا كتبت أيضا سطرا على الرمل، ولكن كان ذلك عندما انخفض المد،وجاءت أمواج البحر فمحته.
ولكن قل لي :ماذا كتبت؟"
أجاب الرجل الأول وقال:"كتبت هذا:"أنا من هو كائن".
و أنت ماذا كتبت؟"
وقال الآخر:"هذا ما كتبت:لست سوى قطرة من هذا الأوقيانوس الكبير".
ـ 16 ـ
الصولجان
قال ملك لزوجته:" لستِ يا سيدتي ملكة حقا ! أنتِ جد عادية ومبتذلة،وغير لائقة لن تكوني رفيقة حياتي!".
قالت الزوجة:" أنتَ تحسب نفسك ملكا،وما أنت في الحقيقة سوى رجع صدى مسكين لمن قبلك ! ".
و أغاظت هذه الكلمات الملك،فتناول صولجانه بيده،وضرب الملكة على جبينها بالقبضة الذهبية منه.
ودخل رئيس الخدم في تلك اللحظة وصاح:"ماذا؟ماذا يا صاحب الجلالة؟هذا الصولجان صنعه أكبر فنان في البلاد.واحسرتاه ! سوف يأتي يوم تُنس به أنت و الملكة،وهذا الصولجان يُحفظ كرائعة فنية،من جيل لجيل.والآن وقد أسلت الدم به من رأس صاحبة الجلالة ،فإنه سيصبح أوفر اعتبارا و أكثر تذكرا".
ـ 17 ـ
الظــل
قال العشب في يوم من أيام حزيران،لظل دوحة كبيرة:"أنت لاتني تتنقل يمنة و يسرة أغلب الأحيان،إنك لتزعجني عما أنا فيه من هدوء وراحة بال".
أجاب الظل قائلا:"لست أنا الذي يتنقل! انظر إلى السماء، إلى العالي.هناك شجرة تتقلب في الريح شرقا وغربا،بين الشمس و الأرض".
وتطلع العشب إلى العلاء،وشاهد الدوحة لأول مرة ،وقال في سره:"ها إن هنالك عشبا أكبر مني بكثير!".
وران عليه الصمت...