كذا يتبين من خلال تحليلنا للإرسالية الإشهارية – على المستويين التقريري والإيحائي- أن "ضبط آليات التدليل داخل عالم الصورة […] هو خطوة جبارة نحو ضبط آليات التناسل الإيديولوجي في رحم الصورة، تناسـل يقـود إلى التطبيـع وإلى التكريس وإلى التبريـر"
يقول بارت R.Barthes: "إن تطور الإشهار والصحافة الكبيرة، وتطور الراديو وفن الديكور دون أن نتعرض لبقايا عدد لا نهائي من الطقوس التواصلية، وهي طقوس المظهر الاجتماعي، يجعل تشكيل علم سيميائي مهمة أكثر استعجالا من ذي قبل".
لا جدال أن الخطاب الإشهاري يعد من الخطابات "التي تندرج ضمن الممارسة الثقافية كالخطاب الأدبي أو السينمائي أو البصري، فهو يؤثث فضاءات اليومي، ويستهلك إلى جانب الخطابات الأخرى. فإلى جانب بعده الاقتصادي-الاجتماعي المرتبط بالدعاية التجارية، يكتسي هذا الخطاب طابعا ثقافيا يتمثل في مكوناته اللغوية والأيقونية".
من هنا، فإن الحديث عن الخطاب الإشهاري يفرض التمييز بين قطبين أساسيين متباينين ومتكاملين في الآن نفسه، ويتمثلان في البعد السوسيو-اقتصادي الذي يوجد خارج الخطاب؛ والبعد الخطابي بصفته نسيجا تتشابك فيه مجموعة من العلامات وفق قواعد تركيبية ودلالية. فالمسار السوسيو-اقتصادي يمثل الإطار العام الذي تمارس داخله عملية الإشهار. و"يعطي الخطاب الإشهاري لنفسه كمهمة الإخبار عن خصائص ومميزات هذا المنتوج أو ذاك بهدف الدفع بالمتلقي إلى القيام بفعل الشراء. هذه الوظيفة "الموضوعية" تبقى وظيفته المبدئية".
وتتحكم في تكوين المسار السوسيو-اقتصادي ثلاثة عناصر:
ـ الإشهاري Le publiciste، يكون المنتوج عنده بمثابة نقطة الانطلاق لصياغة الإرسالية الإشهارية، [ويمثل] المتلقي إزاءها [الإرسالية] فاعلا إجرائيا محتملا.
ـ المستهلك Le consommateur: الفاعل الإجرائي المحتمل الذي يتحول إلى فاعل إجرائي حقيقي في حالة إقدامه على اقتناء المادة موضوع الإعلان.
ـ المنتوج Le produit هو موضوع التبادل بين المنتج والمستهلك.
أما المستوى الثاني، فهو مستوى الخطاب الذي "يفترض وجود قائل ينجز مجموعة أقوال، ومتلق […] يستقبل أساسا خطابا له مجموعة من المكونات والخصائص التي تجعل منه قارئا ومؤولا لهذا الخطاب".
ويتكون الخطاب الإشهاري من نسقين دلاليين أساسيين: النسق اللساني، والنسق الأيقوني البصري. أما النسق اللساني فتكمن أهميته بالنسبة للنسق الأيقوني، من حيث كونه يوجه القارئ نحو قراءة محددة، ويربط بين مختلف مقاطع النسق الأيقوني، لا سيما عندما يتعلق الأمر بصورة ثابتة.
إلا أن أهمية النسق اللساني تبقى رغم ذلك قاصرة أمام بلاغة الصورة وإوالياتها المتفاعلة والمؤثرة، فهي ذات التأثير في نفس المتلقي، كما تستوقف المشاهد لتثير فيه الرغبة والاستجابة، وبلغة التجربة البافلوفية (نسبة إلى بافلوف) "أمام لعاب يسيل لمجرد سماع صوت الناقوس".
ويكتسي النسق الأيقوني هذه الأهمية نظرا لوظائفه المتعددة، التي يمكن اختزالها في النقاط الآتية:
ـ أولا، الوظيفة الجمالية: ترمي إلى إثارة الذوق قصد اقتراح البضاعة.
ثانيا، الوظيفة التوجيهية: الصورة فضاء مفتوح على كل التأويلات، لهذا تكون مرفوقة في أغلب الأحيان بتعليق لغوي قد يطول أو يقصر. وفي هذا الإطار تحيلنا الصورة على قراءة النص الذي يثبت فيه الداعي أفكاره وحججه.
ثالثا، الوظيفة التمثيلية: تقدم لنا الأشياء والأشخاص في أبعادها وأشكالها بدقة تامة، الشيء الذي تعجز عنه اللغة، في كثير من الأحيان، أي أنها تبقى المرجع الأول والأخير الذي يجد فيه النص تجسيده وتقويمه، إذ أن المشاهد يغدو ويروح بين النص والصورة، ليظل باله معلقا بهذه الأخيرة.
رابعا، الوظيفة الإيحائية: الصورة تعبير يغازل الوجدان، ويغذي الأحلام، لأنها عالم مفتوح على مصراعيه لكل التأويلات والتصورات، وهي تحاور اللاوعي وتوحي بمشاعر تختلف في طبيعتها من مشاهد إلى آخر.
خامسا، الوظيفة الدلالية: إن الوظائف الأربعة الأولى تتضافر لخلق عالم دلالي معين، وهذه الدلالة تأتي نتيجة التفكير والتأمل الذي أسسته الصورة لدى المشاهد.
وداخل هذين النسقين اللساني والأيقوني، تتمظهر مجموعة من الآليات الفاعلة داخل نسيج الخطاب الإشهاري، والتي تشكل استراتيجية أساسية مشابهة لاستراتيجية المحارب، حيث تتغيى إفشال الطاقة النقدية لدى المتلقي/المشاهد، عبر استمالته لفعل الشراء. ومن بين الآليات والميكانيزمات المعتمدة في ذلك "آليات الإقناع المنطقي" وبعض الآليات الأخرى التي تستند إلى العلامات والرموز والصور التي تجد مرجعيتها في المتخيل العام للمجتمع: فإذا كان إشهار "تايد أرييل Tide Ariel" يتوسل الإقناع المنطقي من خلال إخضاع المنتوج المرغوب ترويجه إلى تجارب دقيقة تجعل منه مادة فريدة من نوعها، فإن إشهار سنطرال، حليب الأطفال" يعتمد الرمز لخلق التميز عند الفرد، ويلحقه بفئة تمثل المرجعية على المستوى الاجتماعي". ونتيجة لذلك تصبح البضاعة قنطرة على كل من يرغب في التحاق بصف الأبطال، وبالتالي الاندماج مع فئة نموذجية. وهذا ما نلاحظه أيضا بشكل جلي في الإرساليات الإشهارية التي توهم المتلقي أن بإمكانه التميز عن غيره في حالة استعمال هذا المنتوج دون غيره: كنوع السيارات، أو الصابون، أو مساحيق التجميل(*)..
ويعمد الخطاب الإشهاري، إضافة إلى هذه الآليات المعتمدة، إلى شخصنة الشيء، بأن يضفي عليه طابعا إنسانيا (إشهار رونو(5) مثلا: "أنا رونو خمسة"). والتشخيص "مفهوم إيديولوجي أساسي لمجتمع يهدف من وراء تشخيص الأشياء والمعتقدات إدماج الفرد في نمط اجتماعي معين".
ومن خدع آليات الإشهار كذلك محاولته الظهور بمظهر البراءة، وبمظهر الصديق الذي لا يحركه هاجس المنفعة (الجانب الاقتصادي)، وإنما هدفه تقديم مساعدات وخدمات. لذا غالبا ما يلجأ الإشهاري إلى المطابقة بين المرسل والمرسل إليه بتوظيف لعبة الضمائر: (من شيمنا كرم الضيافة، فلنتشبث بكرمنا؛ مع رونو نشعر بالأمان..).
وتلعب الصور البلاغية، كانزياحات عن تعبيرية متعارف عليها، دورا مهما في آفتان المتلقي، مما جعل رولان بارت يحدد البلاغة كإيحاء. "فالخطاب الإشهاري –حسب بارت- يتميز بالازدواجية التي يكون فيها التقرير الأول بكليته، على المستوى اللساني، بمثابة الدال بالنسبة للخطاب الثاني الإيحائي الذي يحيل على المدلول: جودة البضاعة، والذي يحفز المستهلك على الشراء".
لكن السؤال المطروح: لماذا لا يقتصر الإشهاري على الدعوة مباشرة إلى اقتناء منتوج معين، ببساطة؟ لأن المستوى الأول (التقريري) يعتمد في بنيته فقط على الإخبار عن المنتوج، وعن صفاته التقنية، ومدى جودته. هذه المقومات، وإن كان لها دورها الأساسي في عملية الإقناع بالتدليل على أهمية المنتوج، تبقى قاصرة على إقناع المرسل إليه.
من هنا، تفرض مسألة الإيحاء نفسها، بحيث إن الحديث عن البلاغة الإشهارية هو إلى حد بعيد حديث عن الإيحاء: الذي يعني حضور وإدماج الذاكرة السياقية في سيرورة الدلالة.
فنجاح إرسالية معينة رهين بكثافة الشحنات التي تحملها، وصورها الشاعرية الإيحائية، بحيث "تكتسي لباسا أنيقا من المعاني، وتنتقل من طبيعة مادية إلى عالم من القيم والدلالات بفضل تلك الهالة التي يضفيها عليها الإشهاري، لأنه يعرف مواطن الإغراء و"الاغترار" لدى الزبناء"، فيستعمل لذلك الاستعارة، والتشبيه المناسب، والكناية الموفقة، والأسلوب الغنائي الذي يلتزم السهولة والعذوبة، علاوة على مكونات بلاغية أخرى (بلاغة الصورة الحية، بلاغة الجسد، بلاغة الحركة، بلاغة الصوت المشكل، بلاغة الموسيقى، بلاغة الفضاء…الخ). فكل مقوم من هذه المقومات الإيحائية ببنيته الداخلية، أو في علاقته بالمقومات الأخرى، يلعب دورا مهما في تكوين وخلق صور اصطناعية، تتراءى للمتلقي باعتبارها أشياء طبيعية. من هنا يتجاوز الخطاب الإشهاري عبر آلياته المعتمدة "فعل الشراء إلى احتضان وتمثل اجتماعي لمقولات وتصورات ومسكوكات […] تتم صياغته في أشكال بلاغية سحرية، ويقدم على أنه الواقع والحقيقة".
انطلاقا من هذه الاعتبارات المشار إليها، تكمن خطورة الخطاب الإشهاري كحقل غني بإيحاءاته وأساليبه وانزياحاته في استحواذه على اهتمام معظم الفئات الاجتماعية في عصرنا الراهن، إذ يشكل مهد علم الأساطير الحديثة، وبؤرة ثقافية للحياة اليومية، وهو الشيء الذي أكده "روبير كيران" بقوله: "إن الهواء الذي نستنشقه مكون من الأوكسيجين والنيتروجين والإشهار".
من هذا المنظور تأتي مشروعية المنهج السيميائي في الكشف عن الأبعاد الإيديولوجية التي تتسرب داخل نسيج داخل نسيج الخطاب الإشهاري، أي "تحديد نمط وجود هذه الإيديولوجيا لا كجهاز مفهومي عام ومجرد، بل باعتبارها سلسلة من السلوكات البسيطة التي تتميز "ببديهيتها"، لأنها تعد جزءا من إرغامات النشاط اليومي، وهذا ما يجعلها، في غالب الأحيان، تنفلت من الدرس والمراقبة".
وبداهتها هاته هي نتاج عملية معقدة تقوم بها الأسطورة. فهي تشبه، إلى حد ما، عملية من عمليات خفة اليد، حيث تقلب الواقع، وتفرغ التاريخ، ثم تملؤها بالطبيعة (Naturalité)، وتسحب من الأشياء معناها الإنساني، بصورة تجعلها تدل على تفاهة إنسانية.