كتاب الزاوية "في العبودية المختارة"
وجهات نظر
مقال في العبودية المختارة..أيتن دي لابُويسيه
مقال في العبودية المختارة هو أحد أشهر النصوص السياسية والفكرية في التاريخ الأوروبي التي تعالج قضايا الطغيان ودور رجل الشارع العادي في دعم الطغيان وإتاحة الفرصة له كي يزدهر ويستمر.
مؤلف هذا المقال هو الفرنسي أيتن دي لابويسيه الذي ولد في نوفمبر 1530 ودرس القانون في الجامعة وحصل علي تصريح من الملك هنري الثاني يبيح له حق العمل قاضيا في برلمان يوردو. وكانت تلك الفترة التي ظهر فيها دي لابُويسيه مرحلة صراع ديني شديد في فرنسا بين الكاثوليك والهجنوت وهو الاسم الذي أطلق علي أشياع كالفن بفرنسا. وتعرض الهجنوت لعقوبات صارمة بلغت حد الحرق.
ويناقش المؤلف في كتابه سلوك الطغاة وسلوك الناس وطاعتهم المختارة للطاغية. ويرفض لابويسيه دور الدولة الحديثة التي تسحق الجماعات ولا تترك لها حرية أو استقلالاً في تصريف أمورها بنفسها.
وظل الكتاب مثارًا للاهتمام في أوروبا وفرنسا بشكل خاص مع قيام الثورات ضد الملوك من أجل تحقيق الحرية.
ونظرًا لأهمية هذا الكتاب الفريد قام الدكتور مصطفي صفوان بترجمته وكتابة مقدمة وهوامش ضافية وصدر باللغة العربية عن مكتبة مدبولي عام 1990م.
في العبودية المختارة..كفي سيد واحد، ملك واحد
بهذه الكلمات خطب أوليس القوم في هوميروس. ولو أنه وقف عند قوله: كثرة الأمراء سوء، لأحسن القول بما لا مزيد عليه. لكنه حيث وجب تعليل ذلك بالقول بأن سيطرة الكثيرين لا يمكن أن يأتي منها الخير مادامت القوة المسندة إلي واحد، متي تسمي باسم السيد، صعبة الاحتمال منافية للمعقول راح يعكس الكلام، فأضاف: كفي سيد واحد، ملك واحد.
بيد أن أوليس ربما وجبت معذرته إذ لم يكن له مفر من استخدام هذه اللغة حتي يهدئ ثورة الجيش مطابقًا بمقاله المقام بدل مطابقة الحقيقة. فإن وجب الحديث عن وعي صادق فإنه لبؤس ما بعده بؤس أن يخضع المرء لسيد واحد يستحيل الوثوق بطبيعته أبدًا مادام السوء في مقدوره متي أراد، فإن تعدد الأسياد تعدد البؤس الذي ما بعده بؤس بقدر ما نملك منهم. وما أريد في هذه الساعة طرق هذه المسألة التي كثر الجدل فيها: إذا ما كانت أشكال الجماعة الأخري تفضل حكم الواحد.
فأما الآن فلست أبتغي شيئًا إلا أن أفهم كيف أمكن هذا العدد من الناس، من البلدان، من المدن، من الأمم أن يحتملوا أحيانًا طاغية واحدًا لا يملك من السلطان إلا ما أعطوه ولا من القدرة علي الأذي إلا بقدر احتمالهم الأذي منه، ولا كان يستطيع إنزال الشر بهم لولا إيثارهم الصبر عليه بدل مواجهته. إنه لأمر جلل حقًا وإن انتشر انتشارًا أدعي إلي الألم منه إلي العجب أن نري الملايين من البشر يخدمون في بؤس وقد غلت أعناقهم دون أن ترغمهم علي ذلك قوة أكبر بل هم «فيما يبدو قد سحرهم مجرد الاسم الذي ينفرد به البعض».
في العبودية المختارة..قتال الأحرار والعبيد
ضع خمسين ألف رجل مدججين بالسلاح. وضع مثلهم بالجانب الآخر. دعهم يصطفون للمعركة ثم يلتحمون، بعضهم أحرار يقاتلون دفاعًا عن حريتهم والبعض الآخر بغية سلبهم إياها. تري من تظنك تعد بالنصر؟ من تظن أنهم ذاهبون إلي ساحة القتال بخطي مقدامة؟ من يأملون الاحتفاظ بحريتهم جزاء علي عنائهم أم أولئك الذين سواء كالوا الضربات أو تلقوها لم ينتظروا أجرًا عليها سوي استعباد الغير؟ الأولون يضعون دائمًا نصب أعينهم سعادة الحياة الماضية وتوقع نعيم يماثلها في المستقبل ولا يفكرون في القليل الذي تلزم مكابدته زمن المعركة بقدر ما يفكرون فيما سيفرض عليهم أبد الدهر، هم وأولادهم وجميع ذريتهم. فأما الآخرون فلا حافز لهم إلا وخز من الطمع لا يلبث أن يسكن أمام الخطر ولا يمكن أن يبلغ التهابه حدًا لا تطفئه أول قطرة من الدم تنض بها جروحهم. خذ المعارك المشهودة والتي مازالت تحيا في صفحات الكتب وذاكرة البشر حتي اليوم كأن رحاها لم تدر إلا بالأمس علي أرض الإغريق، من أجل الإغريق ومن أجل أن تكون مثلاً للدنيا قاطبة: ما الذي في زعمك أعطي فئة قليلة قلة الإغريق إذ ذاك لا أقول القوة بل الجرأة علي الصمود في وجه أساطيل بلغ من حشدها أن ناء بثقلها البحر وعلي أن يدحروا أممًا بلغ من كثرتها أن كتيبة الإغريق بأسرها ما كان يكفي جنودها تزويد أعدائها ولو بالقواد ليس غير؟ ماذا سوي أن المعركة لم تكن في هذه الأيام المجيدة معركة الإغريق ضد الفرس بقدر ما كانت تعني انتصار الحرية علي السيادة وانتصار العتق علي جشع الاسترقاق؟
شفي العبودية المختارة..طمع الطغاة
إن الشرارة تستفحل نارها وتعظم، كلما وجدت حطبًا زادت اشتعالاً ثم تخبو وحدها دون أن نصب ماء عليها، يكفي ألا نلقي إليها بالحطب كأنها إذا عدمت ما تهلك تهلك نفسها وتمسي بلا قوة وليست نارًا. كذلك الطغاة كلما نهبوا طمعوا، كلما دمروا وهدموا، كلما موناهم وخدمناهم زادوا جرأة واستقووا وزادوا إقبالاً علي الفناء والدمار. فإن أمسكنا عن تموينهم ورجعنا عن طاعتهم صاروا، بلا حرب ولا ضرب، عرايا مكسورين لا شبه لهم بشيء إلا أن يكون فرعًا عدمت جذوره الماء والغذاء فجف وذوي.
إن الشهام لا يخشون الخطر من أجل الظفر بمطلبهم كما أن الأذكياء لا يحجمون عن المشقة. أما الجبناء والمغفلون فلا يعرفون احتمال الضرور ولا تحصيل الخير وإنما يقفون عند تمنيه، يسلبهم الجبن قوة العمل عليه، فالرغبة في امتلاكه إنما تلصق بهم بحكم الطبيعة. هذه الرغبة، هذه الإرادة الفطرية أمر يشترك فيه الحكيم والملتاث ويشترك فيه الشجاع والجبان، به يودون تلك الأشياء التي يجلب اكتسابها السعادة والرضي. شيء واحد لا أدري كيف تركت الطبيعة الناس بلا قوة علي الرغبة فيه: الحرية التي هي مع ذلك الخير الأعظم والأطيب حتي إن ضياعها لا يلبث أن تتبعه النواكب تتري وما يبقي بعده تفسده العبودية وتفقده رونقه وطمعه. الحرية وحدها هي ما لا يرغب الناس فيه لا لسبب فيما يبدو إلا لأنهم لو رغبوا فيها لنالوها، حتي لكأنهم إنما يرفضون هذا الكسب الجميل لفرط سهولته.
في العبودية المختارة..صناعة الطاغية
يا لذل شعوب فقدت العقل ويا لبؤسها، يا لأمم أمعنت في أذاها وعميت في منفعتها، تسلبون أجمل مواردكم وأنتم علي السلب عيان، تتركون حقولكم تنهب ومنازلكم تسرق وتجرد من متاعها القديم الموروث عن آبائكم! تحيون نوعًا من الحياة لا تملكون فيه الفخر بملك ما حتي لكأنها نعمة كبري في ناظركم لو بقي لكم ولو النصف من أملاككم وأسركم وأعماركم، وكل هذا الخراب، هذا البؤس وهذا الدمار يأتيكم لا علي يد أعدائكم بل يأتيكم يقينًا علي يد العدو الذي صنعتم أنتم كبره والذي تمشون إلي الحرب بلا وجل من أجله ولا تنفرون من مواجهة الموت بأشخاصهم في سبيل مجده. هذا العدو الذي يسودكم إلي هذا المدي ليس له إلا عينان ويدان وجسد واحد، ولا هو يملك شيئًا فوق ما يملكه أقلكم علي كثرة مدنكم التي لا يحصرها العد إلا ما أسبغتموه عليه من القدرة علي تدميركم. فأني له بالعيون التي يتبصص بها عليكم إن لم تقرضوه إياها؟ وكيف له بالأكف التي بها يصفعكم إن لم يستمدها منكم؟ أني له بالأقدام التي يدوسكم بها إن لم تكن من أقدامكم؟ كيف يقوي عليكم إن لم يقو بكم؟ كيف يجرؤ علي مهاجمتكم لولا تواطؤكم معه؟ أي قدرة له عليكم إن لم تكونوا حماة للص الذي ينهبكم، شركاء للقاتل الذي يصرعكم، خونة لأنفسكم؟ تبذرون الحب ليذريه. تؤثثون بيوتكم وتملأونها حتي تعظم سرقاته. تربون بناتكم كيما يجد ما يشبع شهواته. تنشئون أولادكم حتي يكون أحسن ما يصيبهم منه جرهم إلي حروبه وسوقهم إلي المجزرة ولكي يصنع منهم وزراء مطامعه ومنفذي رغباته الانتقامية.