الضحك حتى البكاء
أصبت أخيرا بمرض الضحك.
ولقد علمت أن المرض استفحل حين وجدتني ذات يوم أضحك وأنا أسير في جنازة أحد الأعزاء حتى اضطررت إلى الانسحاب من الجنازة وسط ذهول من يعرفونني ومن لا يعرفونني، كما اضطررت إلى العدول عن الذهاب ليلا إلى فضيحة لا شك فيها. ثم عاودتني نوبة الضحك وأنا أؤدي شعائر الصلاة. وكنت كلما زممت شفتي محاولا أن أكتم ضحكتي زادت النوبة إمعانا وإصرارا، حتى تسللت هاربا من بين المصلين الخاشعين. فلما وجدت أن الضحك يطاردني حتى في نومي، وأن زوجتي تصحو فزعة حين تسمعني أنفجر ضاحكا وسط عتمة الليل وهدوئه، صممت على زيارة صديقي الطبيب.
غير أن تلك لم تكن البداية، بل لم تكن هناك بداية. فالأمور ظلت تسير من سيئ إلى أسوأ: همومي الخاصة وهمومي العامة على السواء. فقد وجدتني - وكما شرحت لطبيبي - أتساءل في البداية التي لا بداية لها: لماذا يتسابق الناس، يتنافسون، يتشاجرون، يتقاتلون؟ كنت أقول لزوجتي: إذا كنا نتنازع على اللا شيء إلى حد القطيعة، فلماذا نعيب أن يتقاتل شمال بلد مع جنوبه؟ فتجيبني - كعادتها - معترضة: تشبيهك يا عبدالله غير دقيق. غير أني أستأنف قائلا: حفيداي يتصايحان إلى حد التماسك بالأيدي على تملك لعبة، وفي مناطق شرق العالم وغربه تحول الإنسان إلى وحش خرافي لا ينتمي إلى كوكب الإنسان، لعلهم أبناء الهندسة الوراثية القادمون، أقبلوا قبل الأوان. هل أنا مخطئ يا صديقي الطبيب، هل أنا المريض لأنه لم يعد يشرفني ان أنتمي إلى هذا الجنس، وهل الآخرون- في قاموسكم الطبي- هم الأصحاء لأنهم برغم كل هذا يأكلون ويشربون ويضاجعون وينامون؟ تقول: واضح أنك مصاب باكتئاب، خلل في أنزيمات المخ، وخلايا عصبية وموصلات كيميائية بين الزيادة والنقصان، ولعل الضحك أن يكون الموجة المفرطة الأخرى من موجتي الاكتئاب اللتين يتراوح بينهما، واسمها "ايفوريا"، ولو أني لم أر من قبل حالة مركبة الأعراض مثل حالتك. اذن صف لي علاجا يجعلني سليما مثلهم: أرى المقلوب معدولا، والحرام حلالا، والحلال حراما، والأمانة خيبة، والخداع شطارة وتجارة، والزبالة جمالا، وإشعال الفتن إلى حد الإبادة اقتصادا وسياسة.
قلت لزوجتي: يا أمة الله، طوبي لمن أحبوا ولم يتزوجوا. أجابتني مؤيدة هذه المرة لكن بأسلوب آخر: العمر الافتراضي لزواجنا انتهى. ألم أقل لك يا طبيبي إن همومي العامة والخاصة تفاقمت؟.
اللوحة :
في سني مراهقتي، سني الدهشة والاكتشاف والاندفاع، أمضيت الشهور، وسهرت الليالي محاولا أن أرسم صورتها- جارة وزميلة دراسة فيما بعد - متألقة كشبابها، مشتعلة كحماسها، ورقيقة كحنانها. وحين أتممتها هرولت لأقدم لها اللوحة وأنا أرقبها في فرح وقلق. غير أنها أعطتني ما أعطيت وعيناها تهمسان: ليست صورتي يا سيدي. فرجعت أتعثر في خجل واثقا أني لم أخطئ المكان، حتى إذا ما عدت أتأمل لو حتى اكتشف أنني رسمت صورتي.
اللوفة :
وفي يوم صيف قائظ لا أنساه من شبابي المبكر اشتريت لوفه أخيرة قد أكلتها الفئران من بائع متآكل الأنف. كنت أحلم بحمام رائع أتخلص فيه من العرق الذي يتسرب من منابع خفية في جسدي، ويزحف في خطوط متعرجة، وأمني النفس بعده بنوم عميق. فأنا شخص - عندما ينسكب الماء المتدفق عليه - أحس إحساسات عظيمة، وأقوم بمشروعات ضخمة. وهكذا أدع الماء ينهمر فوقي حتى يتشربه شعري وعيناي وكل مسام بشرتي، بينما يعلو في داخلي إحساس بالنشوة يرتفع شيئا فشيئا وأنا أصيح وأغنى وأقفز، حتى أصل إلى قمة تقترن فيها العظمة بالسعادة. وكانت هذه حاجتي الحقيقية إلى اللوفة في حياتي. لكنهم طاردوني - يا طبيبي - حتى فقدت اللوفة، فحرموني حقا حيويا من حقوق حياتي، ثم اقتحموا بيتي ليقرأوا رسائلي الخاصة، بعدها اقتادوني إلى غرفة التحقيق ليسألوني عن عدد قطع البلاط في غرفة نومي، ولماذا لو جدرانها أزرق وليس أبيض، ولماذا لا أدخن، ولماذا خادمتي نور بعين واحدة، ولماذا أسمح في بيتي بوجود قطة على وشك أن تلد، تشهد بذلك أثداؤها المدلاة. وإنني لأعترف بتقصيري الشديد لأنها أسئلة لم أكن قد أعددت نفسي للإجابة عنها. وقد دافعت عن نفسي قائلا: إنني لا أريد أن أكون زعيماً ولا غنيا ولا لصا ولا مرتشيا، بل مجرد مواطن تطمئن قدماه للخطوة التالية. فإذا بهم ينشدون معا كأنهم في جوقة: وهذا هو موطن الضعف في دفاعك. ولقد ألقى هذا الحادث بظلاله على كل تصرف لي فيما بعد: تعودت أن أمزق خطاباتي وأوراقي الخاصة أولا بأول، وأن أتخلص مما قد يتجمع لدي من صحف ومجلات وكتب وإيصالات فقد يكون فيها ما يدينني. أما أخوف ما أخافه فهو نجاحي أو تفوقي، لأنني تعلمت أنني يجب أن أظل في الظل إذا أردت أن أكون بمنجاة، وألا أكشف عن حماسي وإخلاصي ما دمت لا أستطيع التخلي عنهما.
زمن التحولات :
قلت لحفيدي: اقرأ هذا الكتاب.
أجابني بابتسامة متخابثة: صاحب المكتبة مات، وأقاموا مكانها صالة لألعاب الفيديو والأتاري. يا جدو نحن من قرن وأنتم من قرن.
قلت فيما بيني وبين نفسي مؤيدا: ومشتل الزهور أعز جيراننا ورئتنا التي كنا نتنفس منها العطر والجمال، مسخوه عمارة أسمنتية شاهقة ذات علب كبريتية تجثم على منافذ مسكننا المتواضع فبدا قزما في أرض العمالقة.
مثانتي :
قصدت ذات يوم طبيب مسالك بولية، أشكو له ضيق مثانتي، فرض على طقوسا قبل الفحص: أن أصوم نصف نهار بل أن أفرغ جوفي تماما بكل الوسائل المتاحة. في صباح اليوم التالي التقط لي أخصائي الأشعة صورا في مختلف الأوضاع. في اليوم التالي سلمني طبيبي تقريرا أفرحني وأفزعني: ضيق مثانتك خلقي ( بكسر الخاء وتسكين اللام) فلا علاج ولا دواء. ومع ذلك - ومن باب الاحتياط - نصحني بعدم التعرض لبرودة بعد دفء، وتجنب الكحول والبهارات، والمثيرات والمهيجات، وإفراغ مثانتي أولا بأول. في مدينة أزالوا منها دورات المياه العمومية، ونسوا أن يصدروا أوامرهم بأن تزال من الناس مثانتهم فأصبحت أكثر قبحا، كل حائط وكل ركن وكل جذع شجرة فيها مستباح. لهذا تحمست للدعوة إلى إنشاء رابطة ضيقي المثانة وضيقاتها، مهمتها رسم خرائط توضيحية، وعمل رسوم بيانية، بدورات المياه العمومية، في مدن العالم الرئيسية، وإنشاء فروع لرابطتنا في المدن المصرية، من أسوان حتى الإسكندرية، حتى أصبحت خبيرا بموقع دورات مياهنا العمومية- على ندرتها- في شوارع مدننا الرئيسية، والموانئ الجوية والبحرية، ومحطات السكك الحديدية. كما عرفت دورات المياه شبه الخصوصية، في المطاعم والمقاهي والأندية والفنادق ومحال البضائع الاستهلاكية. أعرف كثرتها وقد تحولت إلى مستنقعات ضحلة طينية، تغص بالخارجين والداخلين، المنتظرين المتأهبين المتلهفين، يخوضونها على أطراف أصابع أقدامهم قلقين متوترين متربصين، قد سد فرد أو فردان منهم أنوفهـم بأصابع أيديهم أو بمنديل متقززين، وهكذا- كما ترى يا طبيبي- تداخلت همومي الخاصة والعامة بل التحمت حتى أصبحت هما واحدا.
في مترو الأنفاق :
كنت أقف مع صديق في طابور قصير نشتري تذكرتين لركوب مترو الأنفاق، حين حاولت سيدة شابة أن تخترق طابورنا، طابور الرجال، وترجو أكثر من واقف أن يأخذ منها ثمن تذكرة يشتريها لها تاركة دورها في طابور النساء. فلما فشلت قالت متحسرة بصوت مسموع مغيظ: انعدمت الإنسانية. قلت لصديقي: انظر انقلاب القيم. أجابني متفائلا: هي واحدة وهؤلاء أحد عشر، رفضوا أن يتعاونوا معها، فضلا عن طابور النساء الذي لم تجرؤ على أن تلجأ إليه. أجبته مصرا على وجهة نظري: لو كان لأحدهم مصلحة في التعاون معها لاستجاب لها. أصر على تفاؤله قائلا: هذا جلد للذات لا أقبله، انظر يا أخي إلى نصف الكوب الملآن.
فلما ركبنا المترو جذب آذاننا حديث يدور بين مجموعة من الآنسات يبدو أنهن مدرسات شابات عائدات لتوهن من مراقبة إحدى لجان امتحانات المرحلة الابتدائية. كانت إحداهن تقول بفخر وحماس: الأسئلة كانت صعبة، والوقت قصير ويكادون يبكون، أشفقت عليهم وكتبت لهم الأجوبة على السبورة.
رويت لصديقي احتجاجي ذات ليلة على زعيق مكبر صوت لسابع جار ظل يلعلع حتى بعد منتصف الليل لحادث حزن أو فرح - لم أعد أذكر- وقع له، فقوبلت باستنكار شديد لأنني لا أراعى مشاعر الجار، وضاعف من جريمتي أنه لم يكن لدي عذر يدفعني إلى هذا الاحتجاج مثل شيخ مريض أو طالب في ليلة امتحان. من الذي لا يراعي مشاعر من؟ مسألة فيهـا نظر!