أقل من الحب بكثير
أمس انتهى
نزفت، فقدته... ثم نزفت
سبح في السائل الأحمر بصمت
لا! ربما قال "باي باي"
وربما قالها بحنان
فقدته. انطفأ نجمٌ.
نفقت عصفورة.
ارتعشت الأرض قليلاً
لم يقتل الزلزال سوى بضعة آلاف
بينهم الكثير من الأطفال
بقيت ألعابهم الوضيعة خلفهم.
أعدم جيش التحرير الأميركي عائلة وسجّيت جثث أطفالها الستة النيام بهناءة أمام عدسات لم ترتجف.
فقدته. حدثٌ بسيط لم يكترث له أحد.
جلست فوق المرحاض وبكيت
اختلطت الدماء مع مياه المجاري
حين فاحت رائحتها في الشارع لم يعرف الناس أن رائحة جنيني في الأجواء
تابعوا السير إلى مقاصدهم وهم يسدّون أنوفهم
فقدته. لم تقرع أجراس الحزن
ولا أخّر المؤذّن أذانه ثانية
ولا غصّت سيّدة عجوز بدمعتها
كل يوم يموت أطفال على امتداد رقعة اليابسة هذه
كل ثانية ترتفع أرواح ناصعة نحو الأعلى
فما الجديد إن مات طفلي
أو انتهت قصة حب
أو التحقت روحٌ بأرواح أخرى لا حصر لها
كان قلبه ينبض فيّ.
وحده قلبه كان قد تكوّن وكنت قد مددت يدي لألمسه عبر الشاشة في زيارتي الأخيرة للطبيب.
توقّفت المعزوفة الآن وساد صمت قميء.
فقدته. قبل أن أملكه.
لم يكن لي. ليس للحظة واحدة.
كنت أنتظره بأكثر من شوق وأكثر من حبّ وأكثر من انتظار
كنت أنتظره وأنا فارغة، في انتظار أن أمتلئ به
كنت أعيش من دون حبّ وحين أتى الحبّ اكتشف أني لا أستحقه، فرحل
فقدته. مهده سيبقى خالياً. بارداً.
لن تُصنع منامات ساذجة فوق المخدّة الفستقية
لن تسيل من فمه عصارة البون بون وتلطّخ الكنبة
الألعاب التي منيتها بملمس يديه الطريتين تنام الليلة خائبة،
والقصص التي قلت اني سأشتريها له قد تنتظر زمناً على الرفّ
متاجر الألعاب كلها تفتقده
والمدرسة التي اخترتها له أعطت مقعده وعلبة تلوينه لطفل آخر
فقدته. انطفأ حلم. كان خطأ مني أن أحلم.
عاقبتني الحياة، ذكّرتني أني، أنا نفسي عقاب لنفسي، ولولا أن موتي يريحني لانتزعت روحي منذ زمن.
مدّت يدها الظالمة إلى أحشائي وأطفأت بإصبعين العلقة النابضة بمليار أغنية منذ أغاني الإغريق إلى أغاني داليدا
سحبته معها من دون أن أشعر
عندما استيقظت متلهّفة لبدء يوم جديد وإنهائه كي تمرّ الأيام بسرعة وتكبر العلقة وجدت حوضي غارقاً في اللون الأحمر... من دون ألم أو حتى مغصة! من دون وداع من دون تضرّع!
فقدته. غاب وجهه الذي لم أره ولم ألمسه
غادرت عيناه قبل أن أعرف لونهما.
غرقت ابتسامته وأنا التي عوّلت على التعلّق بها في بحور الوحدة
فقدت حبّه لي
تعلّقه بي
روعة اسمي الخارج من فمه
لهفته عليّ
شوقه لصدري
لجوءه إلى حضني
فقدته. قيل إني لم أحبّه كفاية
ليس إلى حدّ الاحتفاظ به وحمايته.
في أحد أحلامي، ما قبل الأخير، قال لي: "أنا طفلك"
ابتسمت له غير مصدّقة ما أسمع
لماذا قال هذه الكلمة البديهية؟ هل كان يودّعني؟
لا تبارحني هذه الأسئلة: كيف رحلت؟
كيف سبحت في ذلك السائل اللزج ولم تترك خلفك سوى همسة بالكاد فهمتها "باي باي"؟؟!
من سيعتني بك هناك؟ في الغيب؟ فوق قوس قزح؟
من سينفخ على أصابعك يدفئها حين تتدنى درجة الحرارة؟ من سيرضعك؟ وهذا الحليب الذي يتدفّق من صدري أين أذهب به؟ عقاقير الأطباء لم تنجح في إيقافه. أحضرت النسوة لي رضيعة أرضعها، وجدتها جميلة كابتسامة ملاك، فرفضت أن أرضعها. أتعرف لماذا؟
لأنها ستصبح عروسك.
كلما رأيت فتاة جميلة تمنيتها عروساً لك. سأحنّي كفّيها بدمي.
أرغب بقوة أن أنام.
أن أنهار.
هذا شيء قد يعزيني.
روحي خاوية.
لا وزن لي.
أريد أن ألحق بك
لكني فارغة جداً ولا أستطيع أن أتحرّك.
أريد فقط أن أغرق في حلم تافه، أقلّ من الحبّ والأمومة، أقلّ بكثير
أريد حلماً تافهاً تستخفّ الدنيا به وتمرّره لي... ولا أفيق منه لأجد أني أثناء تلذذي بنومي العميق فقدته.
بسمة الخطيب