جوٌّ ريفي
.. قصة من الأدب الإسباني ..
للكاتب :
خوسيه ماريا ميرينو
سلموه الشقة في أواخر السنة, وبدأ على الفور بتصميم ديكور لها. كان يرغب في أن يضفي على المسكن هوية تميزه عن مئات الشقق المحيطة بشقته, والمتراكمة أيضاً في عمارات هائلة مائلة إلى الحمرة. وكان يرغب في الوقت نفسه في أن يُشيع, ولو بالتصنع, حضوراً ريفياً, جبلياً; كذكرى من بلدته الأصلية, النائية والمنسية.
قسم الصالة بألواح زجاجية شفافة كبيرة, تاركاً القسم الخارجي منها متصلاً مباشرة بالشرفة الصغيرة.
وفي الجانب الداخلي من الحيز الذي يقسمه الزجاج إلى قسمين, بقيت حجرةم كعبة أقام في وسطها, بدلاً من الأثاث المتداول, رابية صغيرة, صنع هيكلها من ألواح خشبية, مغطاة بقماش سميك.
ووضع في أنحاء متعددة من السفح جهاز الموسيقى, والأسطوانات, وأشرطة الموسيقى والفيديو, وأقام مشرباً صغيراً. وبقيت في القمة - التي يُصعد إليها بدرج قصير تتلوه صدوع - فجوة مريحة تُستخدم في الوقت نفسه كمقعد وثير, يلقي عليه جسده في أوقات الراحة.
كانت الرابية المغطاة بذلك القماش الأخضر والرمادي, تتألق تحت مصباح السقف: وهو كرة كبيرة بيضاء, موشاة بخطوط أشعة صفيحية هي صورة ورمز للشمس.
وضع على الجدران رفوفاً للكتب والأواني , مثبتة على ألواح خشبية مقصوصة ومطلية في استنساخ لطيف لجبل أوبينياس وقمم أخرى من سلسلة الجبال. ووراء تلك المجسمات الجبلية, كانت هناك فجوة ضيقة تخفي الأنوار الكهربائية التي تمنح السقف زرقة السماء المسائية الباهرة.
في القسم الخارجي من الحاجز الزجاجي, المتصل بالشرفة الصغيرة - والذي تحول إلى فضاء متماثل مع الخارج بعد نزع الباب والنافذة العريضة وإبقاء مكانيهما الخاويين مفتوحين للهواء - قرر أن يزرع مرجاً صغيراً. فعزل الأرضية برقائق بلاستيكية, وغطى كل المكان بطبقة سخية من الدبال; ثم زرع بذوراً وسمّد الزرع, وراح يسقيه بعد ذلك عدة مرات لكي يُسّرع انتشار ونمو العشب والبرسيم القصير.
علق رفوف أصص على جدران حجرة المرج وحجرة الرابية, وزرع فيها فسائل لبلاب وكرمة. ومع توالي الأيام والوهج الدافئ الذي يسمح اتجاه الشقة بدخوله, ظهرت براعم ونمت أول الأغصان, ثم راحت تتكاثر براعم جديدة.
امتدت ذرى سلسلة الجبال المجازية في الشقة وجروفها على طول الممر, من خلال رسوم تلتحم في أعلى الجدران وفي السقف بزرقة بديعة.
وفي غرفة الحمام, فوق أحد طرفي حوض البانيو الضيقين, أخفى الدوش والصنابير, ببناء منحدر من الحجر والطوب, فيه تجعدات وخشونة الحجر; ومن هناك صار يمكن للماء أن يسيل كما في مسيل جبلي.
علق أصص نباتات معرشة وزعترًا فوق أفاريز كل النوافذ, وأضفى على المطبخ جو البيوت الريفية, بوضع مقعد من خشب الصنوبر, وتعليق ضفائر من الثوم والفلفل والسجق وباقة من الغار, وهاون برونزي وتمثال لامع للقديس بانكرثيو.
وقسم حجرة النوم عند منتصف ارتفاعها بمنصة من ألواح خشبية عرضها متر ونصف المتر وبطول الحجرة, وكانت تزدهي في الجهة غير الملتحمة بالجدران شرفة شديدة الإتقان, مسورة بحزم من الحشيش المجفف, ووضع الفراش فوق تلك السقيفة.
كان يصعد إلى هناك كل ليلة, ويسحب السلّم الصغير قبل أن ينام; ثم يستلقي, فيشعر أنه يطفو فوق العالم, مثلما في ليالي الطفولة.
.......
عندما جاء الصيف, صارت الرطوبة تنشر نداوة كبيرة , تضمخ البيت كله. وكانت الحمائم التي يربيها على الشرفة تدخل إلى القسم الداخلي من المرج لتنقر مابين العشب, حيث كانت تنسل بعض السحالي. وأحضر كذلك أرنبين اثنين بدآ يخرجان من جحرهما ليتسكعا مذعورين.
كان يجلس فوق القمة ويستمع إلى الموسيقى, ويقرأ روايات, ويشاهد التلفزيون المعلق ما بين القمم, ويغمض عينيه مستسلماً للتهادي على هديل الحمائم, وصرير الجداجد, وصدى المسيل المتدفق في الحمام بهدير ماء كأنه يندفع بين الجروف. ومع ذلك, فقد راحت بعض الهموم تعكر طمأنينته: فالأرنبة ولدت مجموعة جديدة من الأرانب الصغيرة, وهي حبلى مرة أخرى دون شك, والحمائم تكاثرت, بعد كثير من الهديل. ورأى أنه يمكن لتلك الخصوبة في التوالد أن تُعرّض جوه الريفي للتهديد والخطر.
***
عندما استيقظ في صباح أحد الأيام, وجد أنه لم يعد هناك من مجموعة الأرانب سوى الذكر وأرنبين صغيرين. أما البقية فقد اختفت جميعها, وكانت هناك بقايا جلد ودم تشير إلى حدوث مجزرة.
بحث عن آثار, واكتشف أخيراً, وبوضوح كامل في وسط الممر, آثارًا مؤكدة لقوائم كلب ضخم أو ذئب.
بقي طوال الليل في أعلى الرابية, متيقظاً, ملتفاً ببطانية ليحتمي من الرطوبة, وممسكاً في حضنه بالبندقية القديمة التي كان جده قد اصطاد بها الخنزير البري الضخم في أومانيويلا. إلا أن الذئب لم يظهر, وفي الساعة التاسعة صباحاً, رنّ الهاتف: لقد استغربوا في المكتب غيابه المريب, وهم قلقون على صحته. وكانت قد انقضت, كما يبدو, أربعة أيام.
عاد إلى العمل في اليوم التالي, ولكنه حين رجع إلى البيت كان الذئب قد التهم بقية الأرانب. عندئذ قرر القيام بمطاردة صيد في كل أركان الشقة, ولكنه لم يتمكن من العثور على الحيوان الضاري.
واستعد مرة أخرى للحراسة فوق المرج, فبقي ساهراً تلك الليلة, والبندقية على ساقيه, وطوال النهار التالي, دون أن يظهر الذئب. وفي الليلة الثانية أحس بنعاس شديد, ولكنه تمكن من مواصلة الحراسة. ولم يظهر الذئب كذلك. وفي الليلة الثالثة غلبه النعاس.
بعد يومين من ذلك اتصلوا عدة مرات بالهاتف, ولكنه لم يرد. وكان لا بدمن مرور أسبوع آخر قبل أن يجدوه: كان ملقى في وسط الصالة, ملطخاً بدم جاف, وحنجرته ممزقة. وبسبب انعدام السقاية, كان العشب قد ذبل واصفَّر تماماً.