لافتة كبيرة, كتب عليها بالخط الكوفي (مدرسة صلاح الدين الأيوبي الابتدائية للبنين) .
كلما اقتربت الفصول من مكتب المدير قلت الضجة, وكلما ابتعدت زاد الهرج والمرج. في نهاية الممر يوجد الفصل الثالث الذي تدرس به نخبة نادرة من العفاريت الصغار, وكأنه قد تم اختيارهم بعناية فائقة ليحولوا حياة الأساتذة إلى جحيم.
وفي أحد الأيام, قرر مدرس الجغرافيا معاقبة التلاميذ في هذا الفصل الشرس بامتحان لم يكن ممكنا بأي حال من الأحوال أن يخطر ببالهم قط, قبل أن يضعوا له كرسيًا بثلاث أرجل بين السبورة وطاولته, الكمين حقق أهدافه السامية, وأطاحوا بالمعلم أرضًا, وأطلقوا في آن واحد ضحكة هزت أرجاء المدرسة, وجعلت مدير المدرسة يهرول باتجاه الفصل, وهو يعلم تمامًا أن هناك كارثة أو مصيبة ما حلت بأحد الأساتذة.
لم يعترف أحد, وقيدت الحادثة كالعادة ضد مجهول, وأعلنت حالة الطوارئ, وقرر الأستاذ أن يكون العقاب جماعيًا.
- أخرجوا ورقة وقلما وأدخلوا باقي الدفاتر إلى الدرج.
هذا الامتحان المفاجئ سيحدد ويكشف مَن فيكم كان يهتم بدروسه, ومَن الذي كان مشغولاً بتدبير المؤامرات.
وبدأت الأسئلة تمطر على رءوس التلاميذ بلا هوادة, وصوت الأستاذ الغاضب يرعد, ويجعل الأسئلة السهلة تبدو كالطلاسم الإغريقية. فجأة بكل أدب, رفع أحد التلاميذ يده, نهره الأستاذ:
- ماذا تريد?
- امتلأت الورقة بالأسئلة يا أستاذ, أين نكتب الأجوبة?
- أخرج ورقة ثانية ولا تقاطعني مرة أخرى, لأني في المرة القادمة سأقطع إصبعك.
السكون يخيم على الفصل حتى أنك تكاد تسمع صرير الأقلام وهي تسافر بين السطور لتحل أكثر الألغاز في العالم غموضًا.
وللمرة الثانية يهاجم أحد التلاميذ هذا الصمت المقدس, ويغرس إصبعه عاليًا في كبد هذا السكون الذي بدأ يلتقط الأستاذ ثقته المبعثرة, تجاهل التلميذ أكثر من مرة, ولكن إصرار التلميذ وملامحه الصغيرة الجادة جعلت الأستاذ يتنازل ويعطيه الإذن بالكلام.
- يا أستاذ, هناك سؤال لم أستطع الإجابة عنه.
- وهل تريدني أن أجيب عنه أنا?
- لا أعتقد أنك تستطيع ذلك.
- ماذا تقول يا ولد, هل جننت? ما فائدتي إذن? قل أي سؤال تقصد.
- السؤال الثاني الذي يقول: كم عدد السكان بفلسطين?
- هل نسيت?...هذا الدرس بالذات كان في الأسبوع المنصرم.
- أجل يا أستاذ, وأنا أتذكر أنك قلت إن تعداد السكان داخل فلسطين أربعة ملايين نسمة, لكن هذا كان قبل أسبوع.
- وماذا تريد إذن?
- يا أستاذ بعد أن نتناول العشاء أجلس مع والدي وهو يتابع نشرة الأخبار, وهناك يوميًا أناس يموتون ويقتلون يسمّونهم الشهداء, والشهداء فلسطينيون, أتذكر أن أبي قال معلقًا لأمي إن فلسطين لم يبق بها أحد.
- يا ولد دعك من هذا, وعليك فقط أن تجيب بالمقرر والتزم بما درّستك إياه.
- ولكن يا أستاذ...
- يكفي هذا, واكمل الامتحان, ودع إخوانك يركّزون في امتحانهم.
الأستاذ نظر إلى ورقة التلميذ, فوجد أنه قد ترك السؤال معلقًا بلا إجابة, كانت نظرته مليئة بالفخر والاعتزاز, أسعده رأي التلميذ, وأنه حاول أن يناقش ويسأل ويعترض, أسعده لدرجة أنه نسي أن هذا الامتحان مجرد عقاب.
- انتهى الامتحان, هيا اجمعوا الأوراق, واحرصوا على أن تتأكدوا أن الأسماء مكتوبة بخط واضح.
خرج التلاميذ بعضهم يضحك, على الطريقة التي وقع بها الأستاذ, وبعضهم خرج وهو يحمل همًا كبيرًا من الحصة القادمة, والنتيجة وعصا الخيزران, وبين التلاميذ تلميذ ظل يحمل في رأسه الصغير سؤالاً أكبر من أن يستطيع أن يجيب عنه, كم تبقى في فلسطين?!