أغلى هدية
كالصاعقة وقع علينا النبأ, هب الرفض في قلبي وقرأته في عيون إخوتي, مستحيل أن يكون المرض الخبيث قد تسلل إلى أمي, سنعرضها على أحسن الأطباء, سنأخذها إلى أفضل المستشفيات...لا... سنسافر إلى الخارج.
- قال الطبيب: لا تعذّبوها لم يبق أمامها إلا شهور.
أخفينا عنها الحقيقة وأحطناها بقلوبنا, ما كنت أعرف كم أحب أمي حتى تأهبت لركوب زورق الرحيل, ننظر إليها وهي تضعف وتشحب وتتساءل: لماذا لا أتحسن رغم الدواء ؟
نضاحكها ونقول: لقد شفيت ولكنك تتدللين علينا.
تنظر إلينا وتهز رأسها غير مقتنعة.
يا الله كم هي جميلة, كم هي رقيقة ومتفانية! كانت تضيق برعايتنا, تريد أن تقوم بأعمال البيت, نمنعها فتقول غاضبة: لماذا تحاصرونني؟
نقول: لأننا نحبك.
تجيب: أرى محبّتكم قد زادت في هذه الأيام, فما الأمر؟
تنقل نظراتها بيننا فلا نجيب, تستقر عيناها الوادعتان علي فتقول: يا الله ما أسرع ما تمر الأيام! أصحيح أن علا حبيبتي وآخر العنقود قد تزوجت وستصبح أمّا؟
أقول: سأنجب طفلة حلوة وأسمّيها باسمك.
بيتنا لم يعد يخلو من الأقارب والأصدقاء, كلهم قد عرفوا ما نحاول أن نتجاهله ونبعده عنا, أتراها حدست بأن الفراق بات قريبًا؟!
دعتنا.. التففنا حولها, أوصتنا أن يحب بعضنا بعضًا, وطلبَت من أختي الكبيرة أن تكون لنا أمًا بعد رحيلها. طلبت من أخوتي الذين لم يتزوجوا أن يسرعوا بالزواج ليصبح عندهم أولاد, ثم فتحت علبة مصاغها وقالت: سأوزعها عليكم. أردنا أن نحتجّ, أن نرفض, لكنها زجرتنا بنظرة عابسة. حلي أمي الجميلة التي أهداها إليها أبي خلال ثلاثين عامًا تفتتت بين أيدينا.
قالت: لا تفرّطوا بها, كل قطعة منها تحمل ذكرى غالية علي. أغمضت عينيها ورحلت نقية هادئة وادعة, وما كان أصعب الفراق!
تنقضي شهور حملي, تجتاحني آلام الولادة, أطلق الصرخات موجوعة مفزوعة, أصرخ: يا أمي, يأتيني وجهها ملهوفًا حانيًا. أقول: دعيني أقبّل يديك, الآن وأنا أتمزّق أعرف كم عانيتِ لنأتي إلى هذه الدنيا.
أسمع صرخة ويقولون: الحمد لله على السلامة, جاءتك عروس حلوة, تلتقي عيناي بعيني أختي الكبيرة, تقترب مني, تضمّني إلى صدرها, تسلّمني علبة صغيرة:
- هذه هدية أمي اشترتها قبل رحيلها وأوصتني أن أقدّمها لك عند الولادة.
أفتح العلبة, أرى مصحفًا ذهبيًا رائع الصياغة يتدلى من سلسلة جميلة, تترقرق الدموع من عيني, أضع السلسلة حول عنق طفلتي وأتساءل: هل تستطيع ليلى الصغيرة أن تمتلك رقة ليلى الكبيرة وحنانها؟
تبتسم لي الصغيرة فأرى في ابتسامتها فرحًا وبرعم أمل, فأعرف ما الذي تعنيه دورة الزمن.
بقلم/ ملك حاج عبيد