يقف شارد الذهن على شاطئ البحر لا يعلم لماذا أخذته قدماه إلى ذلك الشاطئ فى هذا الطقس السئ .. ينظر إلى حبات المطر التى اشتد هطولها محدّثا نفسه ما إن كانت دموعه التى تسقطها السماء أم إنها أمطار ديسمبر حقا .. ؟ و يحدّث نفسه من جديد :
- النهاردة عمرى عدّى خلاص التلاتين .. إمتى هتضحكى لى مرة يا دنيا .. خلاص تعبت من مشاكلك ..
حتى نظر إلى جانبه بعيدا .. و قد دقق نظره و مسح عينيه و كأنه غير مصدق لنفسه حين وجد فتاة تقف هى الأخرى على شاطئ البحر ..
" - مش معقول .. دى عروسة بحر و لا أيه .. لا لا .. أكيد أنا بحلم .. معقول فيه جمال كدة ؟! " :
قالها حين رآها .. و قد بللت الأمطار شعرها الأشقر لتجعله ذهبى اللون كما بللت معطفها البنّى الذى ترتديه .. و قد ظهر عليها الحزن هى الأخرى .. تزداد ضربات قلبه .. يدرك أنه قد جذب إليها حين رآها لأول مرة .. و لكنه يخشى أن يقترب منها خشية الفشل الذى طالما كان حليفه ..
...
يقف الأثنان أمام البحر .. الفتاة هائمة لا يحرك سكونها شئ .. و ربما لا تشعر بوجوده .. أما هو فينظر إليها متأملا سكونها و كأنه حفل لا يريد أن يفوته منه شئ .. حتى همت الفتاة بالمغادرة , و قد ظل هو بمفرده على الشاطئ يرقب رحيلها فى هدوء ..
***
مرت الساعات و الدقائق و الفتاة لم تغادر تفكيره لحظة واحدة .. حتى وجد نفسه يذهب إلى الشاطئ فى اليوم التالى لعله يجدها مرة أخرى .. ينتظر قدومها من جديد و لكن دون جدوى .. و يحدث نفسه :- أكيد هتيجى بكرة .. و قد عاد إلى الشاطئ فى اليوم التالى و لكن كسابق يومه لم تأتِ ..
يوم ممطر .. يوم ساطعة شمسه .. لا تختلف معه الأيام كثيرا و لا تعوقه عن الذهاب إلى الشاطئ .. حتى خاف أن ينسى ملامحها مع مرور الأيام فقرر أن يرسمها .. عائدا إلى مهنته التى تركها منذ سنوات بعدما تخلى عنه النجاح كثيرا .. و لازمته نظرة الرسام الفاشل ممن يعرفهم , حتى قرر وقتها أن يترك الرسم مدى الحياة ..
***
بعدها أخرج أدوات رسمه القديمة .. و أمسك فرشاته ليبدأ فى رسم ملامح الفتاة .. يغمض عينيه و يتذكر شعرها الذهبى ثم يفتحها ليرسم شعرها .. بعدها يغمض عينيه مجددا ليتذكر وجهها الرقيق و تلك الأنف الصغيرة ثم يفتح عينيه و يكمل رسمته .. و ظل هكذا حتى انتهى من لوحته ليجدها أجمل ما رسم فى حياته .. ثم نظر إلى اللوحة مرة أخرى و تحدث إليها :
- ياترى أنتى اسمك أيه ؟ ثم فكر قليلا ..
:- أكيد اسمك آية .. أيوة أنتى آية من الجمال .. من اليوم هتكونى معايا دايما يا آية .. أحب أعرفك بنفسى .. أنا اسمى عمر الهلالى .. تلاتين سنة , خريج فنون جميلة , قالوا عنى رسام فاشل فبدأت اشتغل أعمال حرة .. و زى مانتى شايفة , وحيد .. بس أكيد بعد ما بقيتى معايا مش هكون وحيد تانى .. ثم أمسك بفرشاته مجددا و كتب على اللوحة .. ( آية .. خفت أن أنساكى ) ..
***
بدأت حياة عمر تتغير كثيرا حتى شعر المحيطون به و من يعمل معهم بتغيره .. و يسألون أنفسهم , ماذا حدث له ؟ إنه عاد ليبتسم من جديد .. أما هو فقد كان يذهب إلى عمله ثم يعود مسرعا إلى بيته ليجلس أمام اللوحة .. و يحدثها :
- أنا آسف يا آية إنّى اتأخرت عليكى .. بس النهاردة كان الشغل كتير أوى .. تعرفى النهاردة قابلتنى بنت جميلة .. لا لا .. أوعى تزعلى , مش أجمل منك طبعا .. حتى أنا قلت لها إن آية أجمل منك .. ثم ينظر إلى اللوحة مجددا :
- أيوة كدة اضحكى ..
و قد اعتاد أن يجلس أمامها كثيرا .. لا يحركه شئ عن تأملها سوى رغبته القوية فى النوم .. فيقبّل جبينها فى اللوحة .. و بعدها يخلد إلى النوم ..
***
مرت شهور و مرت سنوات و حياته كما هى .. يذهب إلى عمله ثم يعود إلى اللوحة ليتحدث معها ما بقى من يومه من وقت .. حتى جاء يوم و نظر إليها :
- أصحابى عاوزنى أرجع أرسم من جديد .. و أنا قلت لهم آخد رأيك الأول .. طبعا هما ميعرفوش مين آية .. أنا خايف أقول لحد عليكى .. يحبوكى .. و أنتى عارفة أنا غيور جدا .. ثم ينظر إليها مجددا :
- أنتى مبسوطة .. يعنى موافقة .. خلاص أنا هرجع أرسم من تانى .. و أكيد طول مانتى بتشجعينى هنوصل للنجاح مع بعض .. أنتى عارفة , الفشل ده كان صاحبى الوحيد .. أما دلوقتى هيبعد عنى طول مانتى معايا .. أنا هبدأ أرسم من تانى , و الفلوس اللى جمعتها من شغلى هفتح بيها معرض هتكونى أنتى الجوهرة اللى فيه ..
...
بالفعل بدأ عمر يرسم من جديد لوحة تلو الأخرى .. تجتاحه دفعة داخلية من لوحة آية .. حتى أقام معرضا كبيرا للوحاته تتوسطه لوحة آية .. و قد حقق المعرض نجاحا كبيرا و انبهر الزائرون بتلك اللوحات و خاصة لوحة ( آية .. خفت أن أنساكى ) التى اعتقدو أنها لا توجد مثيلتها فى الواقع .. و طالما تجمعوا حولها يتحاكون بجمالها و مدى براعته فى رسمها .. و تسابقوا على شرائها .. و لكنهم لم يجدوا سوى ردا واحدا من عمر .. إنها ليست للبيع .. ثم ينظر هو إليها :
- أوعى تزعلى يا آية .. مفيش حد هيقدر ياخدك منى .. إزاى أسيبهم ياخدوا حياتى منى ؟!
حتى علم الجميع بمدى تعلقه بتلك اللوحة .. و ذاع صيته فى المدينة .. و أطلق عليه .. مجنون آية ..
***
أيام تمر و أخرى تأتى و نجاحه يتواصل و لوحاته تباع بأعلى الأسعار .. و الكل ينتظر اللحظة التى يقرر فيها أن يبيع لوحة آية .. و لكن هيهات أن تأتى تلك اللحظة .. حتى جاء يوم و قد دخلت إلى المعرض سيدة تسير قدماها بثبات .. و الجميع ينظر إليها فى ذهول و يتهامسون .. إنها آية .. إن آية حقيقية .. إنه ليس مجنون ..
إنها تلك الشابة التى رآها عمر يوم الشاطئ .. و قد وقفت أمام اللوحة الشهيرة و ظلت تتأملها كثيرا .. تنظر إليها كأنها تنظر إلى مرآة منذ سبعة سنوات .. حتى اقترب منها عمر .. فحدّثته :
- أنت مش عارفنى ؟! .. أنا صاحبة اللوحة .. فنظر إليها عمر و لكنه صمت .. فأكملت حديثها و الجميع يراقب حديثهما :
- أنا كنت مسافرة برة مصر .. و لما رجعت كل ما يقابلنى حد ينادينى بـ آية .. و سمعت كتير عن اللوحة اللى أنت رسمتها و عن حبك لها .. لدرجة أنى مصدقتش و فكرت الناس كلها اتجننت .. ثم سألته مجددا :
- أنت شفتنى إمتى ؟! .. و إزاى قدرت ترسمنى بالدقة دى ؟! .. الشئ الوحيد المختلف إنك سمتنى آية .. و أنا اسمى ...
هنا قاطعها عمر بإشارة من يده دون أن يتحدث .. و كأنه لا يريد أن تخبره بإسمها الحقيقى , ثم أشار لها أن تكمل فأكملت :
- أنا طول عمرى نفسى أحب انسان أكون كل حياته .. و فضلت سنين كتيرة و أنا نفسى ألاقى الإنسان ده .. سافرت برة قلت يمكن ألاقى هناك الحب , و لكن للأسف كإنه سراب عمرى ما قدرت ألاقيه .. بس لما رجعت و عرفت أد أيه أنت حبتنى .. لقيت نفسى جاية هنا على الرغم إنى عمرى ما شفتك قبل كدة .. ثم صمتت قليلا و أكلمت :
- عمر .. أنت ساكت ليه ؟!
- عمر .. أنت حبتنى فعلا كل الحب ده ؟
فنظر إليها عمر فى هدوء :
- أنا حبيت إنسانة واحدة بس فى حياتى , و مقدرتش أحب و لا هقدر أحب إنسانة غيرها .. ثم نظر إلى اللوحة :
- هى .. آية .