نشر الليل عبأته السوداء على صفحة السماء , وبدت النجوم وكأنها ألاف القطوع في عبأة الليل , والقمر بوجهه المضي ينظر في سخرية وتحد إلى الظلام , الأمر الذي لم يعجب الليل فراح يرتدى ثوب السحاب فوق ثيابه الممزقة .
و على الرغم من تحطم بعض مصابيح الإنارة, وهزيمة البقية أمام جيوش الظلام , إلا أن الشوارع كانت تموج بطوفان من الوطاويط الآدمية .
سيارات . . . دراجات . . . سائرين على أقدامهم وعلى أربع.
ووسط هذا الطوفان كان هو يجاهد لشق طريقه والحفاظ على بزته كما هي ونقوده من السرقة, متوسط القامة . .نحيل الجسم . . اسود الشعر. . ملامحه تشي كونه واحد من أبناء الشوارع المنتشرين في المدينة , الأمر الذي يتناقض بشدة مع بزته الغالية .
آه . .. لو حدث لها شي لشنقني السيد ماكوزى, لقد أقرضني إياها بعد طول توسل لليلة فقط مع وعد بان يشنقني لو حدث لها شي .
هز رأسه في قوة وكأنه ينفض عنها هذه الأفكار , الأمر الذي جعل رويته تهتز للحظات , فاصطدم بأحد المارة أمامه , قفز للخلف بسرعة فاصطدم بأخر تحرك جانبا سريعا فاختل توازنه ليسقط أرضا.
- اللعنة
غمغم بها وهو ينهض من سقطته المؤلمة, حيث أن يده كانت متصلبة تماما داخل جيبه على النقود -فلا يمكن أن يسمح لها أن تضيع منه- مما منعه من الارتكاز عليها لتقليل الم السقطة.
نفض التراب عن ثيابه ثم عاد يغمغم :
اللعنة ,لماذا لم اصبر قليلا؟ , على الأقل حتى أوفر أجرة سيارة تنقلني إليه .
ابتسم , انه يعلم انه لم يكن يمكنه الانتظار , فمنذ أن سمع عن الفراشة الزرقاء من السيد ماكوزى وهو لا يكف عن التفكير فيه , لقد شعر به يسيطر على عقله تماما , شعر أن حياته كلها تتوقف على دخوله , فترة طويلة مضت وهو يدخر كل أمواله,أكثر من ليلة كان ينام بغير عشاء حتى يوفر الأموال, اقترض من كل من أمكنه الاقتراض منه حتى أكمل نقوده.
الكثيرين حاولوا إثناه عن عزمه , السيد ماكوزى نفسه حذره من عاقبة فعلته وانه لن يستطيع التوقف بعدها - لقد.حذره السيد ماكوزى فقط ولكنه تركه ليختار بنفسه , فهو لا يحب أن يجبر احد من خدمه على شي- إلا انه لم يسمع , لقد حسم أمره ولا يمكن لأي شي أن يوقفه.
بأقدام الحذر واصل طريقه , رأى اللافتة العملاقة المضيئة أمامه , تطلع إليها في شوق شديد.
أخيرا , انه لا يصدق. . . لقد فعلها ,والآن .. الآن فقط شعر بكل تعبه وكفاحه يتلاشى. . . لم يعد يذكر منه أي شي .
تطلع إلى اللافتة المضيئة العملاقة بنظرة أخيرة. . .الفراشة الزرقاء . . الآن أقهرك بأموالي .
بخطوات واثقة خطى إلى الداخل , استقبلته الموظفة بحفاوة واحترام بالغين ,ابتسم في داخله , الآن تعامله باحترام , وقبل فترة جعلت الأمن يوسعونه ضربا لأنه كان ينظر للداخل .
حقا . . إن الأموال تفعل كل شي.
اقتادته إلى منضدة قريبة وانتظرت حتى جلس ثم انحنت في احترام بالغ وانطلقت في خفة لتستقبل القادمين.
فرك عينيه في قوة ليتأكد من انه لا يحلم , انه لا يكاد يصدق نفسه .
لان كانت الحياة قست عليه من قبل , فاليوم بقسوة ألف عام .
اعتدل في مقعده . . فرك عينيه ثانية , وراح يتطلع إلى الجالسين على المناضد المجاورة, رجل وامرأة ومعهم طفلة صغيرة يلتهمون عشائهم . . شاب وفتاة يأكلون وهم يضحكون كالضباع . . فتاة جميلة تجلس وحيدة, فلو كان يملك أموالا أكثر لقام وجلس إليها . . رجل وحيد مرتبك , ملامحه تفضحه بوضوح , ابتسم لما رآه . . إذا فليس الوحيد .
ضحكات الطفلة تنطلق من المنضدة المجاورة وهى تصيح :
انه رائع أتمنى أن نأت هنا كل يوم.
تربت أمها على كتفها وهى تجيب :
بعض الأحلام لا يمكن أن تتحقق يا صغيرتي.
ابتسم في ثقة. . خطا يا سيدتي , أي حلم يمكن أن يتحقق, فقط لو أردت هذا.
لحظات ثم جاء النادل وناوله قائمة الطعام, ووقف منتصبا أمام المنضدة في احترام بالغ .
فتح القائمة وتطلع إليها , لم يكن يعرف القراءة حتى ولكن كما قال له ماكوزى يجب ألا يدعهم يعرفون ذلك , لحظات ثم أغلقها ونطق بالكلمة التي لقنه ماكوزى إياها:
نيردلش جنيو
ابتسم النادل , فلابد أن نطقه للكلمة كان مريعا , ثم تسال:
يتلبك أم سيسب
ممم .. . ما هذا؟ ماكوزى لم يذكر له أن هناك أنواع لقد ذكر له الكلمة فحسب . . لا مفر إذا.
وما الفرق بينهما ؟
تطلع إليه النادل بنظرة قصيرة ذات معنى واضح "اعرف أمثالك من أبناء الشوارع جيدا أتمنى أن يكون معك نقود و إلا فانك ستتألم بشدة " ثم قال :
يتلبك أي كامل, أي يتم تقديم جسد الطفل كامل مع التشكيلة الخاصة والسلاطات وشراب التايلا
, أما سيسب فتعنى أجزاء الجسد المقسمة أيضا بالتشكيلة الخاصة والسلاطات وشراب التايلا , أو يمكنك أن تأخذ طبق من الازرع أو السيقان أو الرؤؤس.
ابتسم , لقد غرق في بحيرة الحيرة الآن , لا يمكنه أن يعرف ماذا يطلب فهو لا يضمن ما معه من نقود.
أللعنة , ماكوزى اللعين , أما انه لم يأت هنا من قبل وقد كان يكذب علية عند اخبره , وإما أنه قد نصب له هذا الفخ متعمدا.
ولكن لا , لا يمكن إن يسمح للأمر أن يفلت من يديه , ليس بعد هذا القرب , هذه الليلة ستمضي كما أراد حتى ولو كانت أخر ليالي حياته.
واحد تلك.. . احم . . . اقصد واحد كامل.
انحنى النادل قائلا :
كما تأمر يا سيدي .
ثم أسرع بالانصراف , بينما جلس هو منتظرا , ما أسوا شي يمكن أن يحدث , لا يعرف ولكنه بالتأكيد اقل من أن يعود الليلة دون أن يأكل جسد الصغير .
انه يتمنى أن يأتي النادل سريعا فهو لم يعد يطيق الانتظار .
شعر باللعاب يملا فمه , اخرج لسانه ومرره على شفتيه , أسرع أيها النادل عليك أللعنة, معدته تطلق أصوات غريبة فلابد أنها طبول الفرح تعلن سعادتها بالوافد الجديد.
لقد اكلتوه كله , أنا أريد واحد أخر ,ااااااااه
كانت هذه من الطفلة الجالسة على المنضدة المجاورة مع أهلها , التفت نحوها وراح يتطلع إليها , كانت تمسك راس صغير بيديها وتنهشه وكأنها مذئوب , وتصرخ في نفس الوقت مطالبة بواحد أخر !!
تسأل في نفسه , ما الفرق بين هذه الطفلة وبين الطفل الذي تأكله ؟ بين الأكل والمأكول؟
لا شي , مجرد سوء حظ لا أكثر , فلو كانت عائلتها أفقر لأصبحت هي عشاء عائلة أخرى.
و ربما لو خسر والدها أمواله فلن يجد أمامه سوى ابنته ليبيعها وينفق ثمنها , محظوظ هو من سيأكل هذا الجسد الذي أكل الكثيرين من قبل .
حقا انهه يبدو له مشروع مربح جدا , ربما لو تزوج امرأة ولادة كأمه فسيمكنه أن يبيع حوالي طفلين كل عام , أو لو تزوج امرأتين . . . ممممم . . . . ستكون الأرباح رائعة وربما لن يحتاج العمل عند ماكوزى بعدها.
حقا!! , ولكن من أين له بالمال الكافي ليتزوج امرأتين؟ , فلو كان يملك نصفه حتى احتاج عمل .
أفاق من أفكاره على صوت الضحكات الماجنة كضحكات الضبع المرقط الصادرة من منضدة الشاب والفتاه.
كانا يتحدثان عن خططهما لمستقبلهما معا, ومستقبل أطفالهما . . ابتسم في سخرية , مستقبل أطفالهما . . . داخل أمعاءهما بالتأكيد.
تجمد بصره عند النادل القادم نحوه . . ابتلع ريقه الكثير بصوت مسموع إن غدته تعمل بشكل جيد اليوم.
بدا النادل يضع الأطباق أمامه, ثم انحنى وأسرع يختفي من أمامه.
تطلع إلى الجسد الصغير المستقر في الطبق أمامه , وحوله أشياء كثيرة لا يعرف كنهها ولكن لا يهم .
من أين يبدأ , هل يبدأ بالرأس الصغير الجميل ذو العيون السوداء , أم يبدأ بالازرع الرفيعة , أم بالسيقان المكتنزة المملوءة باللحم الشهي , الأمر محير حقا .
بدا اللعاب يتساقط من بين أسنانه حتى بدا كالذئب , لا يجب أن يأكل سريعا , عليه أن يتم العملية ببط شديد حتى يحصل على أكثر قدر من المتعة , فمن يعلم ماذا سيحدث بعدها.
امسك السكين , تطلع إليها لحظة , ثم ألقاها جانبا , انه لن يكون هنا كل يوم لذلك فليحصل على متعته الكاملة .
مد يده ثم انتزع الزراع الأيسر , رفعه إلى فمه وقضم منه قضمة كبيرة وراح يلوكها في تلذذ, ثم ابتلعها .
كان اللحم لذيذ جدا , لم يذق مثله في حياته , غمغم لنفسه:
-لو صمت ألف يوم وكان إفطاري من هذا اللحم , فهي صفقة رابحة بالتأكيد.
- يجب أن أعود إلى هنا ثانية سأبذل كل جهدي وافعل كل ما يمكنني فعله حتى أعود ثانية , يجب أن احصل عليه ثانية مهما كلفني الأمر.
يقولون إن من يأكل اللحم البشرى مرة لا يستطيع أن يكف عن ذلك أبدا, هم صادقون بالفعل ,انه يشعر أن كل طعام الأرض لا شي أمام هذه الروعة .
انه يشعر بكل السحر والروعة والجمال , هذا الطفل كان يوما ما يجرى على الأرض . . يلعب . . يضحك . . يتمنى. . يحلم . . ربما جلس يوما تحت شجرة وراح يرسم خططه لمستقبله القادم . . واليوم هو أمامه . . يالسماء إن الأمر لساحر حقا .
هل سيستطيع التحكم في نفسه بعد اليوم؟ ,ماذا ستكون نهايته ؟. . .لا يعرف ولا يهتم , لقد ذاق أقوى متعة في الكون كله , فلو سلخوه حيا بعدها لما اهتم.
هم يأخذ القضمة الثانية ولكن , ما هذا الذي يحدث له ؟ إنه يشعر بدوار في رأسه , الدوار يتزايد بشدة , يشعر أن تنفسه يضيق , انه يختنق , امسك رقبته بيده , أراد أن يستغيث ولكن صوته تحشرج , وجهه محمر بشدة , سقط من مقعدة , المزيد من الحشرجة, إنه . . . يموت.
سمع الصياح:
-المسكين
-انه مصاب بالحساسية, انه ثالث شخص نراه هذا العام .
-يبدو أن الجحيم قد فغر فاه
-أسرع بمناداة دكتور تاكيزى.
بعض الأحلام لا تتحقق أبدا , ابتسم ثم همدت حركته تماما.