لم يسمح الطبيب بدخول الزائرين إليه بعد
قالتها الممرضة لتصيب الجميع بخيبة الرجاء في زيارته إلا أنا فقد كنت أدعو الله طوال الطريق أن أموت قبل أن أراه أو أن اذهب لأجده تعافى نسبيا وخرج من المشفى, أو أن أهله قد جاءوا فأخذوه إلي المنزل وبلدته ولولا حيائي والخجل لما جئت إلي المشفى رغم شوقي للاطمئنان عليه .
استدرنا حتى نعود أدراجنا فإذا بالممرضة تخبر إحسانا منها على وجوهنا المرهقة من عناء الطريق
تستطيعون مطالعته من هذه النافذة الزجاجية.
اقتربنا نحو النافذة لعلها تخبر عنا بعد رحيلنا أننا كنا هنا, تخبر أننا جئنا شوقا للاطمئنان عليه وتخبر عني أسفا عليه وعذرا له .
ساعدني انحناء السرير قليلا على رؤية ملامحه بوضوح ولم تمنعني تلك الأسلاك والأجهزة الطبية التي تحيط به من كل جانب عن ملامسة قسماته بعيني,
كما رأيته أول مرة, ربما كان لقاءنا فاترا بعض الشيء ولكن هذا اللقاء قد نُسب في ذاكرتي إلى ليلة أبدا لا تنسى ,
فبعد يوم دراسي طويل وبينما أنا استقبل باب البناية التي اقطن فيها اخبرني احد شركائي أنني قد سُلبت ميزة التفرد بالغرفة علي يد وافد جديد جلبه صاحب الشقة , صعدت وداخلي بعض من امتعاض, دخلت الغرفة فإذا هو راقد مثل تلك الرقدة ولكن بلا أجهزة ولا أسلاك ولا أبواب مغلقة ولا نفوس تحبه أو تكرهه أو تأسف له أو عليه .
ألقيت التحية فنهض من رقدته واستقبلني بحفاوة اعتدتها من كل وافد جديد يجعل من بسماته طريق للعبور إلى قلوب الآخرين
أو لو ألقيت الآن ألف تحية هل تقوم من رقدتك يا إبراهيم من اجلي ؟
اقتربت منه مادا يدي لنتصافح ثم تعارفنا بكلمات يحفظها كلينا تخبر عنا الاسم والبلدة والكلية والفرقة بعدها انصرفت بهدوء إلى خزينة ملابسي ومن ثم إلى حاسوبي في هدوء مفتعل .
تمر الدقائق والصمت ثالثنا في الغرفة وبين الحين والأخر ينحي كتابه جانبا ثم يكسر حدة الصمت بتساؤل أو عرض معلومة أقوم بالرد عليها ثم أعود وحاسوبي ..
بعدها طال السكوت إلى أن جاء صوت مشاجرة من الشارع , لم أتعجب فقد اعتدت هذا الشيء فلابد أن ساكن الشقة العلوية عاد لمضايقة المارة بسكب الماء فوق رؤوسهم بحجة الضوضاء والتسكع في وقت متأخر فإن استقبل المارة المياه برحابة صدر انتهى الأمر وإن أصدر أي منهم امتعاض لفظي أو حركي نزل إليه صاحب الشقة ولقنه درسا عنيفا . أعتدت التعامل مع الأمر وكأنه شيء تافه ,
جار مريض ومارة يتسكعون حتى ساعة متأخرة من الليل مقدما لنفسي سببا واهيا ومبررا لجعل الأمر أتفه
ما الداعي لمرورهم في هذا الوقت المتأخر,,,, يستحقون
وقمت بتحويل (( من تدخل فيما لا يعنيه سمع مالا يرضيه )) إلى من تدخل فيما لا يعنيه نال من اللكمات ما قد يرديه ,
وهذا حتى أتأقلم مع صوت الاستغاثة وطلب النجدة أمام رجلا أقل ما يوصف به أنه جزيء من بقايا الحرب, دبابة قديمة زادها الزمن صلابة أو مدفع آلي يخلو من صفات البشر فصوته - فقط صوته - يعد سببا في وجود لفظ النشاز في اللغة , وأمام تكوينه الجسماني كنت أتخيل أن جسدي الضعيف سيتحول إلى مصفاة بمجرد أن يعطس هذا الرجل أو يكح في وجهي إذا ما فكرت في مواجهته . وكثيرا ما كنت اضحك مع نفسي قائلا
لعل الله حرم هذا الرجل من أن يكون له أخ أو ولد بسبب أن الأرض لا تقوى علي حمل شخصين مثله
وبين الخوف والجبن والتعامل التافه مع الأمر مضت الأيام وأقصى ما كنت أفعله حيال تجاوز هذا الرجل مع المارة هو النظر من الشرفة مثلي مثل رفاقي وباقي سكان البناية.
وبينما صوت المشاجرة يحرك كل ساكن إلا أنا إذا بـ (( إبراهيم )) يسألني عن سر جلوسي البارد في ظل وجود مشاجرة واستغاثة بالأسفل , عمدت إلي تفسير الأمر علي انه أمر معتاد إذ انه ذلك الجار الذي يقم بتأديب المارة علي جريمة المرور وأن النزول يعد مخاطرة جسيمة لأن ........
قاطعني محاولا دفعي للنزول ولو لمجرد الفصل ولكنني نظرت لا مباليا فما كان منه إلا أن اندفع نزولا ,,
قولت في نفسي يبدوا يا أبراهم أن قوامك الرياضي قد غرك في نفسك ومؤكد ستندم يا صاح علي تلك اللحظات البطولية ويبدو أكثر أن أمك يا إبراهيم قد دعت عليك لتسكن في شقة الطلبة هذه إذ يعلوها ذلك الرجل , خرجت وراء إبراهيم على مهل خطوة تأخذني للإمام وجسدي يتراجع ألف خطوة للوراء وما كان نزولي للمشاركة فيما عزمت عليه عيني إبراهيم فقط كان نزولي من أجل الصعود ببقايا إبراهيم.
وعلى درج السلم وجدت باقي الطلبة يتسابقون في النزول ورغم هذا التسابق عيني كانت تري رعشة أوصالهم أسفل ملابسهم ورغبة دفينة في عدم النزول ولا ألومهم فيما أرى فأنا أشاركهم ذات مقعد الجبن والخوف منذ عهد
كانت نبرات الأصوات مرتعشة من الجميع وصدا الصوت يخبر عنا خوفنا من جريمة محتملة الحدوث لهذا الوافد الجديد .
وصلت فكان المشهد شبه مرسوم .. شخص ملقى على الأرض مبتل الملابس لا يقوى علي الحركة وعلي اليسار منه كتلتين بشريتين تتصارعا هما إبراهيم وذلك الرجل الدبابة كما كنت أطلق عليه وحول الثلاثة مساحة قليلة من الفراغ بينما المارة والطلبة كونت شكل الدائرة عن عمد أو دون قصد وعيون القاطنين تراقب الحدث من الشرفات كما اعتادت كل يوم
لكمات وصفعات وركلات أغلبها في صالح إبراهيم ,,,,, كنت كما غيري عيني فرحة مبتهجة جامدة علي المشهد تتمنى أن يطول الحدث علي هذا النحو ولكن لم أجرؤ أو يجرؤ أحد علي الفصل بينهما
ولكن المشهد لم يطل إذ انتهى سريعا بنزول زوجة الرجل لتأخذ زوجها شبه مهزوماً من بين يدي إبراهيم مكتفية بطلق القذائف والدعوات على هذا الطالب – إبراهيم – وعلى والطلبة جميعا تمسح عن زوجها عرقه الذي أختلط بدمائه بينما لسانها لا يكف عن القذائف والوعيد بطرد الطلبة جميعا بمجرد عودة مالك البناية من بلدته عند رأس الشهر .
هنا ولأول مرة شعرت بالنصر علي هذا الكيان, وطار قلبي بإبراهيم ونصره ولكن لا أنكر أن الغبطة على إبراهيم كادت تتحول إلى غيرة لولا كبحت جموحها ..
لقد انكسرت شوكة هذا الرجل أمام الجميع وما كان يؤلم نفسي في فرحتها هو ذلك العجز عن أكون يوما إبراهيم ,,
هنا قفزت نفسي المريضة بالخوف لتخبرني صبرا لا تتعجل حتما سيأتي النهار ومعه كارثة لإبراهيم فلابد أن الرجل سيعود ليأخذ ثأره ويسترد هيبته التي بناها وضاعت في دقائق أمام الجميع وفوقهم زوجته.
صعدنا مهللين لإبراهيم الذي أسميته واسماه الجميع بالبطل وبعد التهنئة والتحذير له من الأيام القادمة ,انصرف الجميع إلي غرفهم وقد تحول همسهم المرتعش إلي كلمات من نشوة والتحدث عما شاهدوه وما لم يشاهدوه وكأنهم بالمشاهدة – فقط بالمشاهدة - قد شاركوا جميعا في المشاجرة ونصرة إبراهيم .
وما أن ضمتنا الجدران لم يستطع إبراهيم التخلي عن عرش انتصاره فجاءت كلماته حادة بعض الشيء
* كيف يكون تعاملك مع الأمر بهذا الشكل , الم تعلم أن أتفه الأمور بالنسبة لك قد تكون أعظمها بالنسبة لغيرك
* كيف اكتفيت بالفرجة والضحك ومصمصة شفتيك بينما رجل أخر يطلب النجدة منك , ماذا لو كنت أنت مكانه , تحمل نفس ظروفه , ماذا لو كان أبوك أو أمك أو احد من أهلك .
فأجبته