[size=24]كانت تجلس على مقعدٍ خشبيٍ وسط الحديقةِ الواسعة عندما رأيتُها أول مرة.. متلفعةً بوشاحٍ يغطي نصف وجهها المحمرِ الخدود كالجمرِ من البرد, تنظر للثلج الممتدِ أمامها كورقةٍ بيضاء عذرية.. لم تتجرأ قدماي أن تقترب وتعكر فضاءها المليء بالجمال الساحر.. أراقبها من بعيدٍ كاللص.. عيناها تنظران بهدوءٍ و سكينةٍ للبياض, كان منظراً رهيباً شعرتُ معه بسعادةٍ غامرةٍ لم أشعر بها من قبل.
و الآن ها أنا ذا هنا أمامي أوراقي التي تعبقُ بذكراها, أشاهدُ طيفها يبتسم لي, فيزيدُ من أحزاني المتعمقة بداخلي.. كشجرةِ خريفٍ عتيقةٍ أصبحتُ, أوراقها تتجددُ لتتساقط.. ورغم ذلك اليوم الذي تجرأت وقابلتها فيه, لم أستطع أن أبوح لها بشيء, فصمتها و خوفها مني, جعل من مهمتي تزداد إرباكاً..كان يوماً تساقطت فيه ندف الثلج بلطف.. واقفةً بصمتٍ أمام مخبزٍ للمعجناتِ والفطائر, و قنديلٌ أزرق يحاول الميلان لها أكثر.. قلت لها:
- سلام, وسألتها بعجل, و أنا أحاول إبعادها عن القنديل خوفاً من أن يتهاوى عليها:
- هل تعرفين أين يقع أقرب مخبزٍ هنا؟.. سؤالٌ غبي سقط مجبراً مني كثقلٍ وزنه ألف طنٍ أمام بهائها المبهر, فقد تهت في أعماق عينيها عندما اقتربت منها, فكل العبارات التي كنت مستعداً لها تبخرت من رأسي.. شعرها الأحمر كان مجدولاً لفائفأً, لفائف على كتفيها.. وقفت أمامها مستسلماً لبرهة, ولم أستغرب حينها تراجعها المفاجئ الشديد للخلف, وصمتها المغلف بالخوف و الرهبة, فانسحبت بحذرٍ معتذراً لها, و خاصةً أن رفيقتها كانت تستعد للخروج .. ازددت تعلقاً بها بعد تلك الحادثة, فجمالها الغريب حين خوفها بدا لي أسطورياً, و جعل قلبي ملكاً لها في ذلك المكان.. ولازال.
رأيتُها مرةً أخرى, ولكن هذه المرة عند محلٍ للخياطة, دخلَتهُ وبعد نصف ساعةٍ خرَجَت, تبسُمُ هي ورفيقتها.. فمها الكرزي, وردةٌ طريةٌ في بداية تفتحها.. خفقة عطرٍ مرت من عندي حينما رأيتها, فبقت خالدةً فيّ.. نظرت لها وهي تحمل بين يديها مغلفاً وردياً, بدا كهدية.. رَكبَتْ عربة كانت في انتظارهم, فانطلقت بهم مسرعةً غائصةً في وسط الزحام.. سألتُ الخياط, فأخبرني أنها تسكن في بيت جدها و جدتها الواقع في نهاية المدينة الشمالي, خرجتُ منه على عجل ولم يسمع قلبي سوى ما سألته عنه, فلقد تحول قلبي إلى خطوات فاصلةٍ من الحياة.. أوقفتُ عربةً ألاحق طيفها الهارب مني.. ووقفتُ أمام البيت الذي يحيطه سورٌ عالٍ, نزلت وأمرت السائق بالذهاب.. رهبةٌ داخلي بدأت بالاستيقاظ.. طرقت بوابة السور طرقات من لا يريد أن يسمعها أحد, كأن قلبي هو الذي كان يطرق, يستأذن بذلك الخروج.. اقتربت خطواتٍ قليلاً, و تلفت يميناً و شمالاً من بين قضبان البوابة, فلمحت منظراً جميلاً من خلال نافذة البيت البعيدة, لوحةٌ فنية صامتة تشارف على الضياع, إنها هي نفسها ترقص وتدور بفرح, و في يدها ثوب أبيض طويل, و رفيقتها ترقص معها, تنظر لهما امرأة تبدو في عمر الأربعينات, و طفل صغير يغني معهم و يصفق.. شعرها المنسدل بثقل يصل إلى نصف ظهرها.. أقامتْ فتاتي المرأة بقوةٍ تدعوها للانضمام إليهم.. رجعت للوراء أسحب قدمَي غصبا عندما سمعتُ خطىً تقترب مني, فركضت خوفاً من أن يراني أحدهم وأنا في هذه الحالة, فأفقد لحظاتٍ غيرها.
وعدت إلى غرفتي الوحيدة في بيت زوج خالتي, حيث أسكن عندها هي وزوجها الطيب أثناء دراستي, فهما يعتبراني كابنهما, فليس لديهما سوى ابنتهما شوق, التي تدرس في السنة الأخيرة من الثانوية, جميعهم طيبون معي, رغم أن شوق تحاول إزعاج خلوتي دائماً, بتضييعها أشياءاً بالقرب مني, و سؤالها الدائم عنها.. و مع ذلك أشعر ببعض الغربة في داخلي, و قد تكون السبب في بحث قلبي عمن يتعلق به, هل من سبيلٍ لها؟, هذا السؤال الذي نمتُ عليه من دون إجابة..
في اليوم التالي, وبعد قدومي من كليةالادا ب حيث أدرس, شعرت بشوقٍ عارمٍ لفتاتي, إنه يشتعل فيّ, لقد شممت رائحة شعري المحترق!, وبعد بحثٍ وعناء, وجدتها على جسر المدينة الصغير عصرا, أمام النهر الذهبي الممتد لما لانهاية, وصديقتها تلعب مع الطفل على جانب الجسر.. وقفت قريباً منها, ولكنها لم تلاحظني, أو أنها لم تُرد, أنظر لها بتمعن, مشهدٌ رهيب, سمتها الغريب جميل, تتكئ على خشبة الجسر كالأسطورة, تلبس كنزةً شتوية, تطوق رقبتها بحنان, النور المبهر متجمعٌ في بشرتها الناعمة البيضاء, ونسمةٌ خفيفةٌ باردة تتلاعب بشعرها. اقتربت منها أكثر, وسلمتُ ولكنها لم تَرُد, أحسست ببعض الحنق في داخلي من تجاهلها, ما الذي فعلته؟! حتى أواجه بذلك, والذي زاد حنقي أنها حتى لم تلتفت لي, و ذهبَتْ إلى صديقتها والطفل, و كأني شبحٌ لا وجود له, تسمرت مصدوماً ومندهشاً, ورجعت أنا إلى دار زوج خالتي كقائدٍ مهزومٍ لم يبق سواه من جيشه ليعيش حسرة هزيمته.. و جلست للعشاء معهم, و تبادر لذهني أن أسأل عن الفتاة, ولكن بعيدا عن الشبهة, فسألت عن منزل أجدادها, فقالت شوق بحماس, " آه.. أتقصد بيت البكماء؟", اعترتني قشعريرةٌ فجائية, فلم أكن أتوقع أن تكون كلماتٍ قليلة, كالتي قالتها شوق توضح كل شيء, وعندها اتضح ما كان مبهماً, وشعرتُ أني مجرد أبله, ولم أسمع لما كانت خالتي تقوله من توبيخٍ على ما أظن لابنتها على نعتها الفتاة بالبكماء, و لم أعر حديث زوج خالتي عن أصحاب البيت, لكنني صحوت قليلاً من غفوتي على كلمات خالتي عن الفتاة, التي جاءت كصدمةٍ أخرى, "عبير تستعد للزواج الآن, ابنة دينٍ و جمالٍ وخلق, وفقها الله", الدنيا أصبحت سراباً أرى تماوجه حولي, سألتني شوق بتعجب:" ماذا بك, ولماذا تسأل عنهم؟", فأجبتها مذبوحاً: " ليس بي شيء, سأذهب لأنام".
لم يطرق النوم عينَي و لم أفكر به.. تلك الصدمات كانت طعناتٍ قاتلةً مسمومة, أصبحت جثةً مرميةً في وسط الغرفة.. لم أكن سوى غبيٍ و ساذج, لم أنتبه لذلك طوال هذه المدة, ظننتها تتجاهلني, والمسكينة ليست سوى بكماء لا تعرف التعامل مع الغرباء عنها, إنها الآن تستعد للزواج ولم تدر عني شيئاً, لم تدر عن عشقي لها, أن هناك شخصاً أخافها يوماً بدون قصد يستطيع أن يفديها بنفسه لأتفه الأسباب.. ذلك قدري!.. أصبت بكآبةٍ شديدة, وغيرةٍ غريبةٍ قاسية, أتخيلها الآن مع زوجها سعيدين, يلعبان بقلبي و هما يظنانه كرة!.
أمسكت كتبي و أحرقتها, و بقيت لحظةً أراقب نارها المستعرة, و عدت إلى مدينتي امريضاً.. ورغم مرور سنين عديدةٍ الآن, صورتها ما تزال تلاحقني, لا تتركني, تبتسم لي ابتسامةً تجعلني أبكي بكاءاً مشبوباً بضحكٍ هستيري, أكتب القصائد المنسية عنها, ولا أسمح لأحدٍ بأن يراني.. منذ عودتي لم أفتح حقيبتي سوى هذه الليلة, فأنا أحتضر الآن, لعلي أشم رائحتها قبل موتي.. ليس هناك سوى ملابسٍ غير مرتبةٍ أكلها العث, و قلم, و رسالة لم ألحظ وجودها سابقا, فتحتها بتعبٍ و استسلام, فقلبي أشعر بنبضه يتباطأ شيئاً فشيئاً, كخطوات راحلٍ مجبرٍ على الرحيل.. قرأتها من بين بياضٍ بدأ ينتشر في غرفتي.. سطورٌ بدا عليها الحياء.. تتكلم عن مودةٍ و مشاعرٍ لم تستطع كتمها, عن انتظارٍ و حنينٍ يقتلها.. عن خيالي الذي لا يفارقها حتى وقت دراستها و اختباراتها, و كيف أنه يقودها على طريق الرسوب, و ممهرةٌ رسالتها بحروفٍ ثلاثة, (ش.و.ق), و بجانبها قوس ابتسامةٍ من ألوان قوس المطر.. البياض بدأ ينتشر أكثر و أكثر.. لقد طغى على كل المكان.![/size]