الزنزانة رقم 22
فتحت عيناي فارتطمت بحائط من الظلام ، كان أشد قسوة من الحيطان التي تحيط بي و التي نسيت منذ متى ؟
الغريب و المضحك أنني كنت أحلم ببستان مليء بالورود و العشب الأخضر بل و حتى برائحة الزهور و شدا العصافير، آه لو علم مدير السجن هذا ، لزاد من محنتي ، بل لأمر بمضاعفة مدة سجني الانفرادي.
اليوم أكمل الأسبوع في السجن الانفرادي و سجني عبارة عن زنزانة للأقزام ، لاشك في ذلك إذ أنها لا تتعدى مترا و نصف عرضا و متران طولا ، بها سريرا و شبه سرير من الحديد الصدأ الذي تآكل بفعل الرطوبة و الظلام ، فأشعة الشمس لا تصل و السجائر لا تصل , تسمع من حين لآخر أنين أحد المعتقلين من جراء التعذيب و أحدهم يقول من زنزانة أخرى
" اصبر يا يوسف و لا تسمعهم أنينك فإنه يفرحهم " .
في الصباح تُفتح نافذة صغيرة و يُقذف منها برغيف صلب جاف مر على خبزه يومان أو أكثر، أظن أن الرغيف هو الآخر يلقى في السجن لصلابته.
ألتقط الرغيف من الأرض قبل أن تشاركني فيه الفئران الجائعة... إذ أنها تخرج من جحورها بمجرد سماعها لأزيز فتح تلك النافذة الملعونة، ذاك الرغيف هو كل مؤونة اليوم و الليلة، آكل النصف و أترك النصف لليل حين يشتد جوعي.... ذات مرة أعطيت النصف الآخر للفئران فأحبوني أكثر من أصدقائي القدامى الذين ينعمون بالحرية الآن.
الحائط متسخ ، و ملطخ بدماء يابسة، لابد أن أحد مستأجري هذه الزنزانة من قبلي ، قد حاول الانتحار فأخذ يضرب رأسه بالحائط أو أخذ يُضْرَبُ برأسه الحائط ... هناك عبارات مكتوبة لم أستطع قراءتها حتى اليوم الثالث حين اعتادت عيناي على الظلام في زاوية كتب بيت شعري لم أفهم مغزاه إلا و أنا في السجن :
إذا لم يكن من الموت بداً **** فمن العجز أن تموت جبانا
وأقرأه و أعاود قراءته مرات و مرات و مرات حتى إذا سئمته أخذت أقرأ عبارات هنا و هناك، فهذا يبجل الديمقراطية و آخر يمجد النظام الشيوعي ، و ذاك كتب اسم حبيبته التي لابد و قد تركته بمجرد دخوله السجن أو ربما كانت سبب دخوله ، وأحس براحة إذ أجد في زنزانتي آخرين من مختلف الشرائح والأفكار ، لا بد أن هذا السجن قديم جداً ، هناك تواريخ قرب المرحاض تؤكد ذلك. المرحاض!؟ إنه مجرد ثقب في الأرض تنبعث منه رائحة مثل رائحة الجيفة المتعفنة حتى الفئران لم أشاهدها مرة تقترب منه على عكس ما هو شائع عنها. قرب الثقب إناء من القصدير الصدأ مُلِيء نصفه بالماء يستعمل نصفه للشرب و النصف الآخر لقضاء الحاجة هو كذلك يغير مرة في اليوم، أذكر مرة أنني قد أوقعته، فبقيت عطشانا طيلة اليوم و الليلة و عندما صرخت بأعلى صوتي أنادي السجان ، أوسعوني ضربا.
أظل وحدي أتذكر العائلة و الأصدقاء ، لا بد أن أمي تأتي إلى باب السجن يوميا تحمل قفة الأكل ...لابد أنهم يهينونها... و ربما يبصقون في وجهها... لكنها تُخَبئ هذا عني وقت الزيارة ، غير أن دموعها تخونها حين أسأل عن حالها، تسألني هل يوصلون لك الأكل و السجائر، فأستحي أن أجيب بالنفي ، أقول نعم غير أن العكس هو الحقيقة ، فلا بد أن أكلي يصل عند السجان أو مدير السجن ذو الكرش الكبيرة.
كل شيء في الزنزانة منسجم ، الظلام ، العفن ، الرائحة الكريهة , البرودة ، إلا شيء واحد : هناك في السقف الذي لا يبعد عن رأسي سوى سنتمترات قليلة ، يوجد نسيج لعنكبوت سوداء ، لست أدري لم اختارت أن تعيش داخل زنزانة و قد تركت العالم الخارجي و ما يحمله من فرائس طرية و التجأت داخل سجن كئيب ، لا تدخله حتى الشمس ، لا بد أنها قد عملت سوءاً في حياتها فكان عقاب الله عليها شديداً.
أسمع صوت حذاء السجان من بعيد , إنه يقصد أن يقرع رجليه مع الأرض حتى يربك من وسولت له نفسه أن يغفي قليلا ، ربما أنه جاء ليطمئن أننا لازلنا في مكاننا لم نبرحه. أستغرب لهذا السجان و عندما أفكر أجد أنه أسوء حالا منا نحن السجناء ، نحن على الأقل قد أبدينا رأينا و شاركنا في إضرابات وقلبنا الكلية رأسا على عقب , أما هو فمسجون هنا مدى الحياة أو على الأقل إلى أن يتقاعد.
كان ذلك السجان من شرار الخلق ذو وجه عريض و عينان غائرتان ، ممتلئتان بالحقد و الكراهية ، وجهه يحمل مسحة من الحزن و الخوف لا أجدها في وجوه المعتقلين هنا ، لم أراه مرة يبتسم قط ، كل كلامه سب و شتم في الأعراض و قد يبدي فرحا عندما يدوس بحذائه الغليظ على وجه سجين رفض أمراً أو تأخر قليلا داخل ساحة السجن.
الساحة ...هي العلاقة الوحيدة التي تربطنا بالسماء و الحرية ، هنا يسمح لنا بالخروج إليها ربع ساعة كل أسبوع ، فيها نتبادل أطراف الحديث ونقص الطرائف.
ألاحظ الوجوه الشاحبة و الأعين الملونة بالأزرق و بقايا آثار السياط على ظهور النزلاء دون أن يستطيع أحدنا ذكر شيء للآخر حتى لا يزيد من عذابه و بما أن لا مرآة هنا فلن يرى أحد حالته المتدهورة و أسنانه البارزة ، ثم تنقضي الربع ساعة و نعود إلى زنزاناتنا و أعود إلى الزنزانة رقم 22.