لقد أنهكها التفكير فيما سوف تقدم عليه ... وذابت مشاعرها في لحظة واحدة ..وغدت سيولا تعصف بقلبها المملوك .. وأدركت أنها في موقف صعب في مواجهة مع المستحيل. لكن في قرار نفسها , كان هناك صوت خافت يناديها إلى لحظة الوداع .
وقفت أمام المرآة .. نظرت إلى صورتها وكأنها تراها لأول مرة, مسحت من على شفتيها بقايا أحمر الشفاه.. وخرجت إلى الشارع وتوغلت بين الناس .
اليافطات الكبيرة المضيئة ، كانت تشهد ميلاد أضواء الليل هنا وهناك ، أمسكت بشدة بمحفظتها تحت إبطها وأحكمت إغلاق أزرار معطفها الصوفي غير مبالية بقطرات المطر التي تتساقط على وجهها ... سارت إلى مصيرها وشريط ذكرياتها مع أحمد سليمان يرافقها في خطواتها الخائفة.
تذكرت أول لقائها به منذ عشر سنوات، كانت قد خرجت لتوها من تجربة غرامية فاشلة...
خرجت منها مهزوزة مهزومة ومنهارة من شدة الصدمة . علاقة كانت فيها منقادة وراء وعود زائفة.. فأعطت كل شيء لديها، لكنها حصدت السراب... وضياع سنتين من عمرها مشوبة بذكريات مريرة تبرق في مخيلتها فتترك الحسرة والهوان ...مع أندل إنسان صادفته في حياتها.
التقت بأحمد سليمان.. فانتشلها من غياهب الحزن والحيرة ، وصاغ لها في قلبه الكبير ممرعا من الحب والسعادة . أحبته من أول لقاء بينهما، حبا جارفا لا يعرف الحدود.. مضمضة في حبه جراحها، مملئة صدرها بهواء صراحته الرائع، مجففة دموعها فوق عارضيه. أخبرها أنه متزوج ورب أسرة .. وطلب منها أن تكون عشيقته في الخفاء .
حبها لصراحته دفعها للرضوخ لطلبه الملح و بالخصوص أن الجرح في قلبها ما زال ينزف، والدوامة التي كانت تدور في فلكها جعل فكرها يتوقف نهائيا عن التمييز. كل همها كان التشبث بأي شيء يعيد لها أدميتها ، ويبعث الدفيء في حنايا قلبها الذي اكتسحه طوفان جليدي .
في بداية كان الأمر سهلا ...لقاءات متباعدة خلال الأسبوع ، فالذكريات الأليمة لا زالت تكتسح فكرها بلا استئذان.. كانا يلتقيان في الفنادق الفخمة بعيدا عن الأعين المتلصصة.. يتجاذبان أطراف الحديث حول الحب، وعلاقتهما الخفية... كانت تحس به يستدرجها في الحديث عن حياتها لكي ينتشلها من الهوة السحيقة التي ترديت فيها. لقد كان كريما جدا معها ، فبعد كل لقاء كان يدس في حقيبة يدها بعض الأوراق النقدية ، برغم أنه لم يتجرأ ولو مرة واحدة على أخد أي مقابل ... لقد كان سعيدا برفقتها ، وكان هذا يكفيه .
مرت الشهور.. وغدا الأمر يصعب عليهما ، فلم تعد تلك اللقاءات المتباعدة لتستطيع أن تسد مكان الألفة التي تكونت بينهما . بل أصبحا يلتقيان أكثر فأكثر ... فكل لقاء كان يشد من وتاق اللقاء الآخر ويمهد للقاءات أقرب فأقرب .
أصبحت ليلى بالنسبة لأحمد المرأة الثانية في حياته الخفية.. تضحك معه في الخفاء، تسافر معه في الخفاء، وتنام في حضنه في الخفاء. مكتفية بتلك الأوقات المستقطعة من حياته، مقابل سعادته وسط أسرته وأمام المجتمع. لقد كانت واعية جدا، أنه في حالة افتضاح أمرهما، سوف تكون حتما النهاية لهذه العلاقة التي تجمعهما... في ظل الحب اللامتناهي والسعادة التي كانت تظنها أبدية ، رغم إحساسها بالخوف الدائم منها ... لطالما كان أحمد يربت على كتفيها في حنان ويقول : - لا توجد سعادة في الدنيا بدون خوف ، كما لا يوجد حب بدون تضحية .
لقد قرأت في صدر أحمد المفتوح لها دائما وباستمرار، المسؤولية والالتزام في كل المواقف .. وأنه لن يضحي بأسرته وسعادتها في سبيل نزواته كيفما كان الحال.. ورضخت للواقع . واقع غير عقلاني بالنسبة لها وله وللمجتمع.. لكنه واقع احتواها وفيه اختفت آلامها ومخاوفها وكل مشاكلها .. أحست فيه بالاطمئنان الذي أغدقه عليها.. كانت في ساعات لقائه، ترتوي بالحب ، وتنتشي حين تحس به يعاملها برفق ، وحين يحنو عليها .. ما كانت تريد أكثر من ذالك شيئا.
استطاعت ليلى في فترة وجيزة أن تضع أصبعها على موطن الداء في قلب أحمد.. فنبشت في ثناياه، وحركت ماضيه، فظهرت لها حقيقته جلية، وتكسرت أمامها تلك الصورة الواضحة لأحمد أمام الناس. فوراء تلك الشخصية المميزة، وذالك الطبع الشديد، يوجد إنسان رقيق الإحساس طيب القلب جلي السريرة.
في بعض اللحظات ، انتابها شعور بالخوف من هذا المقتحم قلبها ، فأرادت أن تعاتبه ، أنه يخون زوجته بدون استئذان ، لكنها تراجعت ، بل لم تعد تفكر في عتابه ، رغم أنها كانت تنوي ذالك من أول لقاء به ، أحسست من نظرة الألم في عينيه أنه إنسان صادق ، وأنه لا شك مجبر على فعل ذالك إجبارا ، ولعل وراء ذالك سببا لا تعرفه .. لقد تعلمت أن لا تنبش في الأعماق.. بل أن تهرب منها حتى لا تصطدم بالحقيقة.. لقد صممت على أن تعيش في سعادة كاذبة على أن تعيش في واقع مؤلم.
ولجت قلبه بكل جرأة ، واحتلته دون استئذان ، وأروت ظمأه للحب والجنس والعطف والحنان من ينبوعها الذي لا يفتر... أعطته بسخاء، وقابل سخاءها وحبها له بحب جارف يحطم كل الحدود. فقربها إليه وبنى لها في حياته ممرعا تمرح فيه ، وتلهو فيه في سعادة متناهية . لقد دأب أن يغسل نفسه الجافة في بركة حبها وحنانها.. ونجح في مزج نفسه المحطمة والمجروحة بنفسها الصافية والعذبة، وغدا مدمن حبها.
أيقظها من استعراض شريط ذكرياتها مع أحمد، سائق مستهتر ضغط على زر بوق سيارته باستماتة.. مسحت آثار قطرات المطر على وجهها فاسترعى انتباهها عمال الصيدلية وهم يهمون بإقفال أبوابها .. وخفق قلبها في لحظة ، كم حذرته ولم يكن يستمع لتحذيراتها . وتحت إصرارها كان يزور الطبيب ، يقوم ببعض التحليلات .. يتناول الدواء لأسبوع ثم يلقي به في سلة القمامة . كان يقول لها أن المرض مثل الحب .. مثل الجنس .. إنه قدر، أنه مصير.. كل واحد يستحمله ويعيشه بطريقته الخاصة . كل الأطباء كانوا على اتفاق أن عبثه في مرضه والاستهانة بعواقبه، حتما سوف يقودانه إلى الفشل الكلوي.. لكنه كان لا يبالي، مستهترا بالحمية المفروضة عليه، غير عابئ بكل ما يقوله الأطباء. في أغلب الأوقات كان يهمس في أذنها قائلا، أن حبها هو الدواء الحقيقي.. ويهز كتفيه للمرض وكأنه يتحداه . وتتسع عيناها في انزعاج لتصرفاته ، وتطفو على وجهها مسحة الحزن ... كانت تخاف عليه ، وتشعر أنها مسئولة عنه ، وأن وجودها بجانبه له أهمية . إحساسها كان صادقا بأن أحمد كان يقاوم المرض.. و يسرق الأيام من حياته، وأن كل يوم يقضيه معها هو يوم جديد من حياته المثقلة بالألم.. وكانت رغما عنها تجاريه في عبثه .. تحنو عليه وتعطيه الحب بدون حرج وبدون حساب .
شرخ عميق يتجدر بداخلها لأنها تؤمن بالحب ، فالحب هو الفضيلة الوحيدة في هذه الدنيا ... فهما التقيا عند هذه الفضيلة. الحب شيء ضخم جدا.. إنه شهادة ميلاد تضمن الحياة الأبدية، أنه سر الحياة.. يقولها أحمد باستمرار .
كلما كان أحمد سليمان يتحدث عن يوم الفراق.. تدير وجهها إلى الناحية الأخرى، حتى لا يرى دموعها.. كانت تتهاوى ببطء كحلم قادم من الذاكرة ، وتنهمر دموعها بغزارة . يحضن جسدها المرتجف بقوة ... يقول لها أحبك.. فتنزلق من بين يديه وتذوب في أحضانه .