أعترف أنه سبق لي أن غامرت بدخول أحد مطاعم الماكدونالدز. حدث هذا قبل أكثر من عشر سنوات. كانت تلك أول مرة أدخل فيها مطعما للماكدونالدز.
كنت طالبا، وقتها. وكنت أعي أن الدخول إلى مثل هذه الأمكنة قد يوقظ مشاعر الانفتاح على متع الحياة في داخلي، فأضيع بين جمال وفتنة الجالسين وأسئلة الامتحانات وعناوين وفهارس البحوث التي تتطلب منك أن تبقى طالبا في سلوكك وأكلك وشربك.
أن تكون طالبا في المغرب، يعني أن تتدبر حالك بالقليل من المال وأن تعيش حياتك الطلابية بالكثير من الاقتناع بالحدود والهوامش التي سيكون عليك أن تضبط على إيقاعها نمط أيامك.
عليك أن تبقى مبتعدا عن كل ما يشتت تفكيرك وتركيزك.
عليك أن تحافظ على ميزانيتك المتواضعة. أكل مشترك مع الأصدقاء. لحم في المناسبات وقطاني في معظم الأيام.
كنت دخلت المطعم تابعا خطى صديق تعرف قبلي على طبيعة ما بالداخل من تعقيدات اختيار وأداء.
صديقي ودع الكلية مبكرا. تدبر أمره بعيدا عن مارتن هايدغر ويورغن هابرماس وقدامة بن جعفر وهنري ميشونيك ومحمد بنيس والحافلة رقم 11.
حين يأتي إلى الرباط. يأتي برغبة واحدة. أن يفرغ جيبه في الأكل والشرب في المحلات التي توجد فوق الأرض وتحت الأرض !!
صديقي يموت ف "النشاط" !!
في المرات التي كنت أرافقه فيها، والتي كنت أتذكر خلالها أسطورة باخوس، كنت أتعجب من قدرتي على الصبر كل هذه السنين طالبا ينتقل من سنة إلى أخرى. ومن مدينة إلى أخرى، كمن يبحث عن وردة ضيعها في الصحراء.
كنت أتصور نفسي سيزيفا يلبس الجينز ويدحرج الصخرة عبر الشوارع.
معنى أن تكون طالبا
في المغرب. أن تكون طالبا، يعني أن تتعب كثيرا. أن تتعب معك الأسرة. وأن يتعب معك الأصدقاء والجيران.
أن يتعب معك الخضار والجزار وسائق الحافلة ومراقبها.
وأن تتعب معك الطالبة التي طاوعت قلبها فصاحبتك.
من هؤلاء من يتعب معك بالمال. منهم من يتعب معك بالدعاء (لك أو عليك). منهم من يتعب معك بالشفقة عليك. ومنهم من يتعب معك لأنه يرى أنك محظوظ وأنت تتفوق في دراستك.
منهم من يذهب مع التعب إلى نهايته.
منهم من يودعك في منتصف التعب.
سيتعب معك اللحاف. ستتعب معك الوسادة وأنت تجرجرها خلفك من بيت لبيت ومن مدينة لمدينة.
ستفقد الوسادة لونها الأول، ومع ذلك ستكمل معك المشوار، حتى وهي تبدو مثل شاة تقطعت أوصالها وخرجت مصارينها.
بداوة بني عمير
صديقي يسخر مني.
في كل مرة يحل بالرباط يجدني أكتب وأراجع بحثي.
يكرر سؤاله الساخر. نفس السؤال.
دارجة صديقي صادمة.
"باقي غير كتقرا، باغي تولي اوْزير ؟؟".
كان دخولي مطعم الماكدونالدز امتحانا شخصيا لقياس مدى قابليتي للتأقلم مع عوالم جديدة ومغايرة في ثقافتها ومضمونها وشكلها.
تجرأت يومها فطلبت بإنجليزية فيها كثير من بداوة بني عمير ... تشيز بيرغر !!!
بدا الأمر مضحكا بالنسبة لي، بعد أن استبد بي، قبل لحظات من ذلك، شعور بالحرج من تواجدي بمكان ليس بيني وبينه غير الخير والإحسان. أنا الذي نشأت على "الكسكس" و"المرقة"، حتى صرت غير قادر على تدريب معدتي على نمط آخر من الأكل.
أحسست بالغربة عن المكان الذي تواجدت به بمحض إرادتي، حتى بدا لي أني بنيويورك أو واشنطن، حيث يمكن أن ينتابك الخوف من إلقاء القبض عليك بتهمة التسكع بدون أوراق الإقامة وشحنك على متن أول طائرة متجهة إلى بلدك.
هواء داخل المطعم هو غير الهواء المتواجد خارجه.
هواء الداخل متحكم فيه عبر أرقام وأجهزة إلكترونية، كورية الصنع، على الأرجح. هواء مستورد من أجل راحة الرواد.
في الخارج، حين يكون الجو باردا تتمنى لو أن حر غشت حل قبل الأوان. خلال غشت تشتد الحرارة، فيبدو لك كما لو أن الشمس انتعلت حذاء نايك رياضي ولبست شورتا أصفر اللون ووضعت نظارات شمسية وسارت تتمشى بين الناس عبر الأزقة والشوارع.
من المفارقات اللافتة أن هذا المطعم كان في إحدى اللحظات، المعبرة عن مكر التاريخ ومآل الإيديولوجيات، مركزا ثقافيا سوفياتيا !!
الكيتشوب وأفلام الثورة
تفتت الاتحاد السوفياتي ونقل تحويل البناية، من مركز ثقافي على النمط الاشتراكي إلى مطعم وجبات سريعة على النمط الليبرالي، صورة معبرة وملخصة لمآل صراع دام أكثر من نصف قرن شاطرا العالم إلى نصفين.
أتخيل الكتب الحمراء ممزقة. أتخيل عناوينها تتحول إلى كينغ بيرغر. شيز بيرغر. بيتزا ...
أتخيل الأفلام الوثائقية الطويلة عن لينين وستالين والثورة الروسية وموت قيصر تتحول إلى أفلام مكسيكية وبرازيلية، أجمل ما فيها بطلات في نصف لباس بقدود بحرية وشعر اسكتلندي.
أتخيل الكيتشوب الأحمر شماتة ليبرالية في الثورة الحمراء !!
حين أمعن النظر في لون الكيتشوب أقول مع نفسي إن ذلك كل ماتبقى من أغلفة الكتب وأشرطة الثورة والرايات المزينة بالمطرقة والمنجل.
نساء ونساء
المهم. لنرجع إلى الرباط. لندخل المطعم.
يبدو رواد المطعم على درجة محترمة من الرفاهية والجمال.
أطفال يرطنون بفرنسية أجد إلى اليوم صعوبة في تمريرها في الحلق ماء.
أمهات يختلفن عن نساء القرية التي جئت منها.
نساء القرية غارقات في حياتهن البسيطة، قانعات بالنصيب، متحملات لشقاوة الأبناء.
هؤلاء نسوة في سن والدتي. ومع ذلك لازلن يحتفظن لأنفسهن بحضور وردي جميل.
شابات يجالسن شبانا لم أتصور إلى اليوم إن كان بإمكانهم أن يدرسوا ب "القرقوبة" وينزلوا "ضيوفا" على داخلية تافهة بإحدى المدن السفلى لمتابعة الدراسة الثانوية، بعيدا عن العائلة، ثم يتقاسمون غرفة صغيرة لمتابعة الدراسة الجامعية بإحدى المدن الصغيرة، قبل أن ينتقلوا إلى الرباط لمتابعة الدراسة في السلك الثالث بجامعة محمد الخامس بميزانية شهرية تقل عن ثمن حذاء يرابط بخيلاء في واجهة محل أودربي، ثم ينخرطون مباشرة بعد مناقشة رسالة الدكتوراه، في مجموعات الدكاترة والمهندسين المعطلين، حيث يصبح الواحد منهم مجرد رقم في لائحة انتظار تتغذى بالأمل والألم.
في مثل هذا الواقع، يمكنك أن تحس ب"الحكرة"، كما يمكن أن ينتابك إحساس بالبطولة.
الطفل الذي يأتي العالم من قرية هامشية ليطالب بعد مسار دراسي ناجح بحصته في الصراخ أمام بناية البرلمان وبوظيفة عمومية لا يمكن إلا أن يكون بطلا.
في مثل هذه اللحظات من عمر الفرد، قد يتولد لديك إحساس بالبطولة، وربما انتابك شعور بأنك "مسخوط الوالدين"، أنت القادم من قرية خاف سكانها على امتداد السنوات وشايات المقدم واستدعاءات القايد والغبار الذي تخلفه سيارة الجدارمية (الدرك) خلال زياراتهم المتقطعة للقرية، بحثا عن بائع للكيف أو الماحيا أو سارق بقرة.