مثلما هناك الربيع تتفتح فيه الورود الزاهية لتختال وتتباهى على بعضها في الجمال وبهاء الألوان وتتباهى الأشجار بطول قاماتها ولذة ثمارها وكثرة إنتاجها فهناك الخريف حيث تسقط أوراق الزهور كما تسقط أوراق الشجر وتهز الريح أغصانها ليجمعها شيء واحد وتتشابه فيه وهو التجهم وكدر الطبيعة التي تلهو بالجميع وتمر الأيام لتعود لما كانت عليه ربيع فصيف ثم خريف وشتاء ولكن الخريف ينزع عن الطبيعة المساحيق التي وضعها الربيع فتظهر على أشكالها بدون مساحيق زائفة
كانت تأتي إلى القرية التي أسكن فيها كل صيف لتقضي عطلتها عند أقاربها الذين يقطنون بجانبنا ..كانت لا تشبه كل الفتيات المتمدنات من خلال طريقة ملبسها المهذبة والمحتشمة ..في الحقيقة الكل كان يخشى أن يكلمها بل حتى أن ينظر إليها إلا عن طريق اختلاس النظرات خشية أن تراه فترد عليه بتلك النظرة الملتهبة المرعبة التي تحمل في طياتها عدة معاني من الاحتقار والاستصغار فما يلبث أن يغض بصره حياء وخجلا من نفسه..وما زادها جمالا ذلك الصمت الرهيب والوقار العجيب الذي يحمل ألاف المعاني...كانت لا تخرج من البيت إلا مع أحدى قريباتها ..عندما تسير تكون عيناها ملتصقتان بالأرض ...ما إن تمر على جماعة من الشباب حتى تفتنهم بصفاتها قبل أن تفتنهم بجمال وجهها ...بصراحة الكل كان يتمناها زوجة المستقبل ولكن ما لسبيل لذلك وهي لا تكلم أحدا ولا يجرؤ أحدهم حتى إلى مفاتحتها بالموضوع كما أنها لا تقطن بالقرية فما أن تمضي أيام العطلة حتى تعود إلى المدينة لإكمال دراستها الثانوية
لقد افتتن بها الكثيرون من أبناء القرية كبارهم وصغارهم ..تقدم الكثير لخطبتها ولكنها كانت ترفضهم الواحد تلو الآخر ..من صاحب الوجه الجميل إلى صاحب المال الكثير مرورا بصاحب الأخلاق النبيلة ...نعم كلهم كان يتبعها ..يلاحقها خفية يقتفي أخبارها ربما يكون لها صديق أو حبيب ترفضهم لأجله ولكن ما يلبث أن يعود خائبا لأنه لم يكتشف لا صديقا ولا حبيبا.
ما إن يحل فصل الصيف حتى تجد شباب القرية ينتظرون قدوم شهرة تلك الفتاة الشقراء الجميلة التي فتنت قلوب الشباب وحتى الأطفال فما إن تمر حتى تشرئب الأعناق ثم تطأطئ خجلا منها ...كانت مثلا القمر تظهر شهرا لتختفي أشهرا ..كل بنات القرية كانت تلوكهن الألسن...فلانة ما أقبحها..وفلانة ما أقبح أخلاقها ...فلانة تدعي العفاف ..وكل أنواع الكلام ولكن بمجرد أن يذكر أحدهم شهرة حتى تخرس الألسن وكأن بها مسا من الجن أو قيدا فرض على هذه الألسن الناطقة ...لماذا؟ لأنهم يعرفون شهرة ومن تكون ..حبيبة الجميع ...ما إن يذكر اسمها حتى تهيم هذه القلوب الظامئة ..حتى تتجمد هذه العقول عن كل أعمالها إلا بصورتها ...الكل كان يحلم بها ...يتمناها لنفسه ولو أعطاها روحه مهرا لها ..فمن يا تراه سعيد الحظ الذي سيفوز بها وتكون له زوجة
انتهت الدراسة وحانت العطلة الصيفية لتعود شهرة لقضاء عطلتها بعدما حققت النجاح الباهر الذي حلمت به وانتقلت من الثانوية إلى الجامعة ...وها هي تزيد على جمالها الأخلاقي والخلقي جمالا علميا بديعا كان بمثابة التاج الذي تضعه لتتربع على عرش قلوب الجميع وتسيطر على عقولهم مثلما سيطرت على أرواحهم وأصبحت أسيرة لديها بدون سجان
بينما أنا أسير بسيارتي في أحد شوارع الجامعة ..كان الازدحام شديدا ..معاكسات الشباب المقرفة وهم يترجون الفتيات...دخان السيارات .أشياء عادية ألفتها في هذا الشارع وفجأة مر أمامي منظر ظننته خيال...من ؟ إنها شهرة تكلم أحد الشباب ..لم أصدق ما أرى ؟ هذه الفتاة التي يخاف الجميع النظر إليها ..ماذا تفعل؟ مرت هذه اللقطة أمامي كأنها خيال ..ربما واحدة تشبهها أو أن الواقف أمامها أحد أقاربها ...أوقفت سيارتي في أحد الشوارع وتوجهت نحو المكان ماشيا ..الزحام كان شديدا ...بدأت أتأكد ..وأخيرا ظهر لشهرة حبيب...مازلت أخطوا الخطوة تلو الأخرى حتى وصلت أمامها وقلت بدون شعور ولأول مرة...شهرة أنت هنا...فنظرت نحوي وأصفر لونها وتلعثم لسانها وكاد يغمى عليها وحملت محفظتها وتوجهت مسرعة نحو مدخل الجامعة..أردت التوجه نحو سيارتي ولكن ذلك الشاب الذي كان واقفا معها قطع علي طريقي وهو يقول بكل نرفزة ..أفسدت علي كل شيء وتريد الذهاب ..لا ولن يحدث هذا فقلت له : وماذا تريد أن تفعل .فبدأ يشتم ويسب ..وفقدت أعصابي فكنت أرد الصاع صاعين خاصة أني أكره أمثال هؤلاء الشباب أصحاب الشعر المزركش و الخواتم الذهبية في الأصابع والسلاسل الذهبية في الرقبة...فتحول الكلام والسب إلى تلاحم ثم تبادل للكمات حتى تدخل المارة وفكوا الشجار ليتوجه كل منا إلى حال سبيله بعد التهديد والوعيد...وكان من بين من فكوا الشجار أحد أصدقائي الذي يملك محلا في ذلك المكان ..فذهبنا إلى محله القريب وأعطاني كأسا من العصير وهو يقول : رفيق لم أكن أضنك ملاكما بارعا ومصارعا شرسا ..فابتسمت وأنا أضرب على صدره بيدي وأنا أقول: وهل كنت تعتقد أني ضعيف وأطلقنا العنان إلى المزاح والضحك....فقال صديقي : لما دخلتما في هذا العراك...فقصصت عليه القصة كلها..فقال تقصد شهرة تلك الفتاة التي كانت واقفة مع ذلك الشاب الذي تشاجرت معه ...يا صديقي تلك الفتاة طائشة وترافق كل من هب ودب وهي تصطنع العفاف أمامكم فقط وإن أردت التأكد فتعال في الغد هنا لتراها وترى ماذا تعمل...شكرت صديقي على كرمه وضيافته وتوجهت نحو السيارة لأتوجه نحو البيت وأنا كلي عجب من هذه الفتاة التي ترتدي قناع العفاف
بالفعل وكما روى صديقي فقد كنت ألاحظ شهرة وأراقبها ..تنزل من سيارة فاخرة لتركب أخرى ..تفترق مع صديق لتلتقي صديقا غيره. وما كان ذلك إلا قناعا ترتديه عند دخولها إلى القرية
حلت عطلة الصيف وجاءت شهرة كعادتها إلى القرية لتقضي عطلتها الصيفية المعتادة...كنت جاسا مع أصدقائي لتمر شهرة أمامنا ..الكل كان متجها ببصره نحوها ..وهم يرددون سبحان من أحسن خلقها كما أحسن سورتها...وهي تنظر إلى الأرض ولا تكاد ترفع رأسها ...لم أشعر إلا وأنا أصرخ بأعلى صوتي:...شهرة ..شهرة..فنظرت نحوي فقلت: لقد سقط القناع..سقط القناع...ولما عرفت أني عرفت عنها كل شيء لم تنطق ببنت شفة ..أما أصدقائي فكانوا ينظرون نحوي وقد أخرستهم الدهشة وكأن الطير على رؤوسهم وهم يسألون عن هذا المجنون الذي نطق بهذه الكلمات .
في الصباح جمعت شهرة أغراضها وتوجهت نحو المدينة قبل نهاية العطلة الصيفية ..فهي تعرف أني سأنشر هذا السر بين شباب القرية ولن تعود لها قيمة بينهم
مر فصل الصيف تلو الآخر ولم تعد شهرة صاحبة القناع البريء الطفولي إلى القرية حيث كانت تقضي عطلتها لأنها علمت أن الجمال بدون أخلاق لا شيء...وقد ذهبت الأخلاق وبقي الجمال ولكن الجمال وحده لا يساوي شيئا
أما شباب القرية فقد كانوا يحسون بالغضب مني لأني السبب في هجران شهرة ...هجران القرية بدون رجعة