سقى الله زمان اللحم
اجتمعا يتسامران ويتجاذبان أطراف الحديث على ناصية شارعٍ في ليلةٍ زاد في برودتها ووحشتها غياب نور القمر.
قالَ لها: أتتذَكَّرين أيتها العزيزة أيام الخير والبركات؟
وكيف تحسبني أنساها يا صديقي العزيز، أجابت القطَّة؛ إنَّ كلَّ يومٍ يمضي لا يأتي بعده يومٌ مثله. الأحوال تسوء بشكلٍ غير معقولٍ أو مقبول، وأصبح لا بدَّ من عملِ شيءٍ لتصحيح الأمور. أذكرُ أنَّ وقوفي على عتبة دكان اللحام الحاج عُمر لم يكن في يومٍ من الأيام يطول أكثر من لحظات، يرمي لي بعدها قطعةً من اللحم، آكلها قرب الدكان دون حاجةٍ للهروب بها خوفاً من منافسة قطَّةٍ أخرى عليها. في تلك الأيام كانت القطط كلها شبعانة ومن عائلات محترمة، وكان الحاج عمر وغيره من اللحامين، يعتقدون بأنَّ الإحسان إلينا يفتح أمامهم باب الرزق ويجلب لهم الحظ؛ ولم يكن اعتقاد الحاج في غير محلِّه، لأني دائماً كنت أدعو له بطول العمر والرزق الوفير كي يبقى هو مصدرَ رزقي.
وعلَّق الكلبُ بصوتٍ متقطِّع النبرات يعبِّر عمَّا في قلبه من أسىً وقال:
"لقد أصبحتُ كلباً عجوزاً. رأيتُ الكثير وعرفتُ الكثير! صحيح أنَّ حياتنا هنا ليست بمستوى حياة الكلاب في أوروبا وأمريكا، خصوصاً وقد سمعتُ بأنَّ بعضهم يعيش حياة رخاءٍ أكثر من بني آدم، ولكنني ولوجه الحقيقة أقول إنني لم أشْكُ من الجوع من قبل. كنتُ أعيش مدللاً في بيت يعمُرُ ليس بالمحبَّة والحنان فقط بل والعظام أيضاً. آه.. سقى الله أيام زمان يا صديقتي، كنتُ ألعبُ بالعظام لعباً إلى أن أتى ذلك اليوم المشؤوم الذي أقبل فيه معلِّمي بلباسٍ جديد وقبعةٍ غريبة الشكل على رأسه فودَّعني وقبَّل رأسي قائلاً لي أنه ملتحقٌ بالجيش وأوكل أمر العناية بي إلى أخته الصغيرة التي أهملت أمري بعد فترة ولم تعد تخرج بي للنزهة. تسلَّلت ذات يومٍ خارج البيت وأخذتُ أتنزَّه في الأحياء المجاورة، ولكني حين قررتُ العودة وجدتُ نفسي تائهاً والأولاد الصغار يرمونني بالحجارة، فهربت وابتعدتُ كثيراً عن البيت، ومنذ ذلك الحين وأنا أنام خلال النهار في المقبرة القريبة من هذا المكان، وفي الليل آتي إلى هنا أبحث بين أكياس القمامة على شيءٍ آكله، وفي الصباح الباكر أنتظر صاحبك الحاج عمر ليرمي لي بعظمة آخذها وأعود بها الى المقبرة. ولكنْ، أمرٌ ما حدث فجأةً وانقلبت الأمور رأساً على عقب، فندر وجود العظام بين الفضلات وتغيَّرت معاملة الحاج عمر تغيّراً جذرياً. حتى اللحام الآخر في الحي المجاور أصبح يركلني بقدمه كلَّما رآني. إنني لا أدري السبب وراء هذا التغيّر، ولا أشكُّ أيتها الصديقة في أنكِ أعلم مني بما يجري، فأنت بسبب مرونة جسمك تستطيعين تسلَّق الأشجار ودخول البيوت من النوافذ المفتوحة والإطلاع على الأخبار من مصادرها، وكذلك فإنَّ الناس لا يخافون منك مثلما يخافونني مع أنني وقسماً بشرفي لم أعض في حياتي إنساناً!
صمتت القطَّة لبضعة لحظاتٍ تفكِّرُ ملياً بما قاله الكلب الطيب ثم أجابت:
"لا تأسفنَّ وحدك على ما لحقك من ضيمٍ وركلٍ وتشريدٍ يا صاحبي فقد أصابني ما أصابك من العذاب. أنا كنت أيضاً ابنة عائلة محترمة ومعروفة، لكنَّ أمي رحمها الله خلَّفت الكثير من القطات والقطط فاضطرَّت العائلة إلى توزيعنا على الأصحاب والمعارف. وفي كنف العائلة المالكة الجديدة، تلقّيتُ من العذابِ أمرَّه على يد أحد أطفالها الأشقياء الذي كان غالباً ما يمسكني من ذنبي ويدور بي كالمجنون ثم يرمي بي بعيداً. قررت أخيراً الهروب مفضِّلةً حياة الذل هذه عن تلك الحياة في كنف الظالم المستبد. أما بالنسبة لما ذكرته عن مرونة جسمي فهو أمرٌ صحيحٌ، فلولا تلك المرونة لما استطعتُ أن أحصل على طعامي اليومي الذي أصبح يتطلَّب كفاحاً مريراً في هذه الأيام. ألم تلاحظ يا صديقي الازدياد الهائل بعدد السكان في هذه المدينة؟ ألا ترى أيضاً كيف أصبحت وجوههم كئيبةً ومعاملتهم جافةً وشرسة؟ أما ما هو أسوأ من ذلك فكونهم قد أصبحوا ينافسوننا في البحث في أكياس وبراميل الزبالة. إني لا أمانعُ في أخذهم للثياب والأحذية وما شابه ذلك من الأمور التي لا حاجة لنا بها، ولكن أن يشاركونا في فضلات الطعام فهذا ما اعتبره اعتداءً صارخاً على حقوقنا. إنني غالباً ما أقفزُ داخل برميلٍ للقمامة لأجدَ فيه طفلاً أو طفلين قد سبقاني الى البحث عن الطعام، وما أن يراني أحدهم حتى يضربني ويرميني خارجاً. أولاد الكلب!.. كأن المكان ملك أبيهم."
وهنا بدت علامات الانزعاج على وجه الكلب، فاعتذرت القطة لجرح شعوره وقالت: "لا تؤاخذني يا صديقي، إنها مجرد كلمة تعلمتها من بني آدم أسمعهم يقولونها كثيراً، والحقيقة أنني لا أخفي عنك استغرابي لاستعمالهم هذه العبارة، فأنا أعرف أنهم يُعجَبون بك ويصفونك بالوفيِّ والشجاع والأمين، ومع ذلك فحين يريدون شتم أحدٍ ما يقولون عنه أنه ابن كلب! ألا تعتقد أنهم يستحقون بأن يُدعوا بأولاد الكلب بسبب هذه الأعمال التي يعملونها معنا؟"
هنا ابتسم الكلب العجوز، فقد اعتاد على مزاح صديقته القطة، إضافةً إلى أنه بحاجة ماسةٍ لصداقتها، فبعد أن وُضِعَتْ هذه البراميل الكبيرة العالية على مفترقات الشوارع أصبح البحث عن العظام أمراً صعباً للغاية، ولولا مساعدة هذه الصديقة الوفية لقضى أكثر الليالي يتضوَّر جوعاً.
قال الكلب: "إذن أخبريني بما تسمعين.. ما الذي جرى حتى انقلبت الأمور على هذا الشكل الذي نغَّص فيه عيشنا؟"
أجابت القطة: "لقد سمعت مراراً الناس يتحدثون عن وحشٍ كبير تسربل بفروة أسد وغزا وعشيرته أرضهم وأشاع بينهم الرعب. أكل خيراتهم، فرض عليهم الإتاوات، ونشر بينهم جواسيسه ليطلعوه عما يقولونه عنه أو عما يبيتون له من مكائد، فنكَّد بذلك عيشهم وضيَّق عليهم أمورهم وأفقر أحوالهم فأصبح الحاج عمر لا يستغني عن فضلات اللحمة التي ارتفع ثمنها بعد أن أصبح للذهن والعظام زبائن. سمعتُ أحدهم يقول أنَّ لا خلاص من هذه الأوضاع إلاَّ بموت الوحش.."، وصمتت القطة فجأة وهمست في أذن الكلب تطلب منه الحذر حين شاهدت شبح رجلين يسيران على الرصيف من بعيد. وقال الكلب بصوتٍ هامسٍ: "لعلَّهما من أولئك الذين ينافسوننا في البحث عن الطعام؟" فهزَّت القطة رأسها بالنفي وقالت: "لقد أصبحتُ خبيرةً بأحوال الناس. أنت تقضي نهارك بين القبور، أما أنا فأتسلَّى بدراسة أمورهم والإطِّلاع على شؤونهم! هذان الرجلان ليسا إلاَّ من جواسيس الوحش ولولاهم لما بقي حيث هو حتى الآن". فسأل الكلب متعجباً: "ولكن ما شأنهم فينا، ولماذا الخوف منهم وهم لا يفهمون شيئاً من حديثنا؟" فضحكت القطة وقالت: "يا لك من عجوز مغفَّلٍ مسكين. إنهم ليسوا بحاجةٍ لسماع ما تقول.. فهم يدوسون عليك ويحطمون عظامك لمجرَّد الشكِّ بك، ولذلك كن عاقلاً والزم الصمت الى أن يبتعدا عنا."
قال الكلب بعد أن اختفى الشبحان في ظلمة الطريق: "قلتِ لي أيتها العزيزة في مطلع الحديث أنَّ الأحوال تسيء بشكلٍ غير معقول وأنه قد أصبح من الضروري عملُ شيءٍ لتصحيح الأمور. فهل تقترحين مثلاَ أن نرحل الى أميركا ولا أقارب لنا فيها يساعدوننا للحصول على الغرين كارد.. أو هل أتسلَّل الى مقرِّ الوحش فأعضه في ساقه وأصيبه بمرض الكَلبِ فيموت وأخلصهم منه؟ قولي لي بربِّك، ما العمل ؟"
وكادت القطة أن تقع على قفاها من الضحك لاقتراح صديقها الكلب الخَرِف وقالت له: "الناس يأبون على أنفسهم أن يقول العالم عنهم بأنَّ كلباً قد أنقذهم من وحشٍ متسربلٍ بلباس أسد، وقد يصيبك منهم ما أصاب الراعي الذي أنقذ بنت الملك.."
"وما هي قصة الراعي أيتها الصديقة؟" قال الكلب.
آنذاك نهضت القطة واقتربت منه تحكُّ جسدها بجسده وقالت له: تعال معي الآن ننتقل الى مكانٍ آخر من المدينة يسكن فيه أناسٌ يأكلون اللحمة ويرمون بالعظام. اتبعني ولا تبعد نظرك عني حتى لا تضيع في الزحمة. هناك سأحكي لك القصص، ولكني أحذِّرك سلفاً، ففي ذلك الطرف من المدينة عليك أن تضبط لسانك فلا تدعه يقول ما لا يقال، لأنّها منطقةٌ لا يسكنها إلاَّ جماعة الوحش الذين يتوفَّر لهم ما لا يتوفَّر لغيرهم. هناك سنجد اللحم والعظام ولن يكون في البراميل منافسٌ لنا.