من زمان
" أرجوك ليس الآن .... اتركني قليلا .... اتركني نصف يوم فقط " في لهفة شديدة صرخ بها هذا الرجل العجوز مستغيثا بهذا الشاب طويل القامة الذي كان يبدو عليه عدم التأثر نهائيا بما يقوله هذا الرجل .
ثم رد عليه هذا الشاب : " صدقني لم يتعبني أحد من قبل مثلك أنت جبان جدا .... الوضع ليس بهذه الخطورة , سوف أجري تغيير بسيط جدا في طريقة حياتك .... صدقني لن تشعر به " .... رد العجوز : " أولا كيف لي أن أصدق أنَ ملك الموت شاب وسيم مثلك , يفترض بك أن تكون شبح أسود مخيف ... ثانيا أنا لست جبانا ولكني أريد فقط طلب أخير .. إن سمعتني ستعلم ".
صمت طويل خيم على المكان , و ريح باردة مرت خلال جسده , حينها شعر العجوز أن هذا الشاب بدأ يغضب و يثور فقال : " أقسمت عليك أن تسمع فقط .. و بعدها افعل ما تريد و لن ألومك " .... هدأ هذا الشاب قليلا ثم قال : " حسنا الآن أسمعك ".
قال الرجل العجوز : " ابنتي سحر في الخامسة و العشرين , لم أرها منذ أكثر من عشرة سنوات ... و هذا لأني طلقت أمها و تركتها و نسيت كل شيء ... حتى ابنتي الوحيدة نسيتها وذلك بعد أن عضني الفقر و ألغى هويتي , و رغم أني تزوجت مرة أخرى لكني لم أنجب و حرمني الله من الأولاد ... و منعتني زوجتي الثانية من سحر فطاوعتها ..... مرات كثيرة كنت أذكرها فأبكي .. لكن لم أستطع أن أخالف زوجتي لأن والدها كان يملك كل شيء , حينها قلت أن المال أغلى من الولد , و عندما كبرت علمت أن مال بلا ولد ... طائر بلا جناح.... جنة بلا نعيم.... قد بعت نفسي و ابنتي الوحيدة ... و أرجوك قبل أن أموت دعني أقابلها مرة واحدة ... أطلب منها أن تسامحني ".
ضحك الشاب ضحكة بسيطة لم يفهم العجوز معناها فكل ما كان يشغله الرد , و قد جاء مطمئنا: " لك ما تريد ... فرصة أخيرة .... أمامك ساعة واحدة فقط " ... و طبعا صاحبه هذا الشاب الصغير حتى وصل الرجل إلى ابنته ... وهنا انتفض قلبه و قال لها : سامحيني يا ابنتي ... أرجوكي سامحيني .... فإن ساعتي قد حانت و لن يفيد العناد و الخصام .... أعلم أن السماح في وضعي مستحيل ... تركتك و أنت طفلة , ولم أسأل عنك يوما , و لكن صدقيني لم أنسك لحظة ... إن شئت لا تصدقي و لكن أنت كل حياتي الآتية ... رغم أنها انتهت و لا بقية لها ".
ثم أكمل : " لكن صدقيني أخبرني صديقي هذا أن الموت تغيير بسيط في حياتي لن أشعر به ... فإن رضيتي الآن و سامحتي فالجحيم بعدك برضاك نعيم , و الجنة نعيمها ممحوق في سخطك " .... " يا ابنتي قد ظلمتك في حياتي و لن أظلمك في موتي .... أظن أنك لا تحبيني ... و هذا طبيعي لأنك لا تعرفيني لكن فقط حاولي".
نظرت إليه ابنته سحر نظرة تائهة كمن وسعت الدنيا أمام عينيه فهام فيها و تاه , ثم أدارت وجهها عنه .... حينها علم أن قلبها قد قسي عليه ..... فقال لها : " إن هذا الشاب الذي ترينه واقفا بجواري ليس صديقي ... إنما هو ملك الموت جاء يقبض روحي .... و أقسم بالله أنك أول من خطر ببالي حين علمت أني للحياة مفارق ... و بعد رجاء طويل سمح لي بفرصة أخيرة حتى تسامحيني ... فإن سامحتي قبض روح ساكنة و نفس مطمئنة .... و إن بعتي كما بعت فلا أمن ولا سكن".
حينها بكت سحر بكاء شديدا .... قطعت قلب والدها العجوز .... و بعد رجاء شديد سكنت و هدأت .... و وجد أمها تدخل غرقتها مسرعة و هي تصرخ : " ارحمي نفسك يا سحر من هذا العذاب ".
و طبعا هذا العجوز لم يعرف ماذا يقول لوالدتها التي تركها من زمن , فنظر إلى الأرض في خجل .... وهي حتى من شدة غضبها لم تنظر إليه.
ثم قالت لسحر : " إن أباك هذا الذي مات أمس ... لم يسأل عنك طيلة هذه السنين .. إنه حتى لا يعرف أنك طبيبة ... و لا يعرف خطيبك ... إنه لا يعرف شيئا عنك ..... أرجوك لا تبكي عليه.
ردت سحر : " لكن يا أمي أشعر أنه كان يحبني .... أشعر أنه أراد أن يقول لي شيئا .... صدقيني رغم كل شيء أحبه".
كان العجوز قد فقد عقله و نظر إلى صديقه في ذهول قائلا: " ما هذا الذي أسمعه ؟ .... أنا لم أمت ... أنت قلت هذا و وعدتني ... لا أفهم شيئا ... ما هذا؟؟ ".
رد الشاب : " أنا آسف لقد كذبت عليك .... فليس من سلطتي تأخير موتك .... هذا موعد مكتوب .... و لكني أوهمتك بهذا حتى تحضر إلى ابنتك وتكلمها كأنك حي و تعلم أنها لا تكرهك .... أنت ميت منذ 20 ساعة ".
دارت الدنيا برأسه , و قال: " لا لم أمت من 20 ساعة كما تقول .... أنت لا تعرف شيئا .... لقد مت حين تركت ابنتي التي تحبني .... مت حين أضعت حياتي....وعشت ميتا لا روح لي .... لقد كنت ميتا في كل لحظة فرح لها لم أكن بجوارها .... ها أنا ذا أمامك افعل بي ما شئت ...لقد مت من زمان .. من زمان جدا ".