الفصـــــــــل الثاني: تجربة الغربة والضياع.
لم يكنِ الشاعر العربي الحديث بمعزل عن المؤثرات العامة المحيطة به، بدءاً بواقع الهزيمة الأسود مع نكبة فلسطين عام، مرورا بالمد القومي الوليد، وصولا إلى انهيار الواقع العربي وما أحدثه من زرع الشكوك في نفوس المثقفين والمبدعين، وإسقاط كل الوثوقيات العربية التقليدية والثوابت المقدسة والطابوهات. لقد مكنت كل هذه الاهتزازات الشاعر العربي الحديث من خلخلة الثوابت، والانفتاح على ثقافات العالم، شرقه وغربه، وكذا على التراث العربي، فكان:
1/ استيعاب الروافد الروافد الفكرية القادمة من الشرق، (مذاهب صوفية، تعاليم متحدرة من الديانات الهندية والفارسية والصابئة. . .)
2/ الاستفادة من الفلسفات الغربية الحديثة، من وجودية واشتراكية. . .
3/ التفاعل مع أشعار: بابلونيرودا، وبول ايليوار، ولويس أراكون، وكارسيا لوركا، وماياكوفسكي، وناظم حكمت، وتوماس إليوت. . . .
4/ التأثر بأشعار جلال الدين الرومي، وعمر الخيام، وفريد العطار، وطاغور. . . .
5/ الانفتاح على الثقافات الشعبية (سيرة عنترة بن شداد، سيرة سيف بن ذي يزن، سيرة أبي زيد الهلالي، كتاب ألف ليلة وليلة. . . .)
6/ التعمق في القرآن الكريم، وفي الحديث النبوي الشريف.
7/ التمعن في الشعر العربي القديم.
بكل ذلك غدا الشعر العربي الحديث وسيلة لاستكشاف الإنسان والعالم تعبر عن ثمار الرؤيا الحضارية الجديدة التي استقرت عند بعض الشعراء المحدثين الكبار، من أمثال السياب ونازك الملائكة والبياتي وصلاح عبد الصبور وخليل حاوي وأدونيس وغيرهم.
ومن الموضوعات التي تسجل حضورها بكثرة في الشعر العربي الحديث، تجربة الغربة والضياع التي يرجع الدارسون عوامل بروزها إلى ثلاثة هي:
(أ) التأثر بشعر توماس إليوت، خاصة في قصيدته (الأرض الخراب)
(ب) التأثر بأعمال بعض المسرحيين والروائيين الوجوديين أمثال: ألبير كامو، وجون بول سارتر، وبعض النقاد مثل: كولن ولسون، خاصة في دراسته عن اللامنتمي، وهي أعمال ترجمت إلى اللغة العربية وساعدت في تبني الشباب موجة من القلق والضجر انعكست في أشعارهم
(ج) عامل المعرفة، باعتبار المعرفة سلاح الشاعر الحديث.
إلا أن أحمد المجاطي لا يقر بكون هذه المصادر هي الوحيدة التي شكلت سبب نغمة الكآبة والضياع والتمزق، بل هويرى أن هناك جذورا لهذه النغمة تتمثل في تربة الواقع العربي الذي حولته النكبة إلى خرائب وأطلال، ذلك أن النكبة في نظره أهم عامل في الدفع نحوآفاق الضياع والغربة بالشعر العربي الحديث، فليس الأمر مجرد نغمة سوداء استقدمها الشعراء بقدر ما هو مأساة حقيقية مصدرها هذا الواقع المنحل وذلك التاريخ الملوث اللذين قدر على الشاعر العربي الحديث أن يحمل لعنتهما مما يؤكد أصالة هذه التجربة وضرورة البحث عن جذورها في الواقع، وتصوير أهم مظاهرها البارزة في القصيدة العربية الحديثة، والتي نذكر منها:
1. الغربة في الكون:
حين حلت النكبة، وطرد العربي الفلسطيني من أرضه، ونفي من أمجاده وتاريخه، وحاصرته المهانة والذل، وانفصل عما حوله من أشياءَ وقيمٍ، مال إلى الشك في كل شيءٍ، وكان الشاعر بفعل حساسيته المفرطةِ، أبلغ من جسد هذا الميل حين جرب أن يحس بوحدته وتفرده في الكون، وتولى أمر نفسه بنفسه، فشكك في الحقائق ومال إلى التفلسف الوجودي ( الأنطولوجي )، وتفسير الكون عقلا ومنطقا، بفعل إحساسه بالعبث والقلق والمرارة المظلمة، وممن جسد هذا الميل نذكر: صلاح عبد الصبور، والسياب، وأدونيس، ويوسف الخال.
2. الغربة في المدينة:
آمن الشاعر العربي الحديث بأن هدف الشعر هوتفسير العالم وتغييره، لذا وجد في المدينة المجال الأنسب لتحقيق هدفه، على اعتبار أنها تمثل الوجه الحضاري للأمة بكل أبعاده الذاتية والموضوعية، وتتخذ قناعا سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا. لكن المدينة العربية فقدت كثيرا من مظاهر أصالتها، حين غزتها المدينة الأوربية، فأضحت بمصانعها الحديثة وعماراتها الشاهقة وطرقاتها الفسيحة، قالبا لا يناسب واقع الأمة العربية المهزومة مما غذى إحساس الشاعر العربي الحديث بالغربة في علاقته بالمدينة مكانا وناسا وقيما وأشياءَ، فكان أن سلك في تصوير هذه المدينة طرقا متعددة، فقد صورها في ثوبها المادي وحقيقتها المفرغة من كل محتوى إنساني، كما فعل أحمد عبد المعطي حجازي في ديوانه (مدينة بلا قلب). كما اهتم الشاعر العربي الحديث بالناس في المدينة، فقدمهم صامتين يثقلهم الإحساس بالزمن، مشغولين بأنفسهم، لا يكاد يلتفت الواحد منهم إلى الآخر. ورغم هذه المواقف السلبية من المدينة فإن الشاعر الحديث لم يستطع الهروب منها إلى الريف أوالغاب، كما فعل الرومانسيون، فقد وجد أن المدينة تحاصره، كما عند السياب مع بغداد، إذ وجد أن الخلاص منها يكمن في الموت، كما عند صلاح عبد الصبور في قصيدة (الخروج).
3. الغربة في الحب:
فَشَلٌ ثالث يضاف إلى فشل الشاعر العربي الحديث في فهم أسرار الكون وفي التأقلم مع المدينة، إنه فشله في الحب الذي بات زيفا مصطنعا وبريقا واهما، ذلك أن هموم الشاعر العربي الحديث كثيرة متنوعة، وتركيبته النفسية معقدة لا ينفع معها ترياق الحب بمفهومه الروحي أوالمادي، فلم تعد المرأة بجسدها وأنوثتها ورقتها وجمالها قادرة على تخليصه من همه القاتل، بل إن العلاقة بين الزوجين تحولت إلى عداوة وقتال كما عند خليل حاوي في قصيدته (الجروح السود) من ديوانه (نهر الرماد)، والحب يموت كما عند عبد المعطي حجازي، أويصاب بالاختناق كما عند صلاح عبد الصبور.
4. الغربة في الكلمة:
كانت رغبة الشاعر العربي الحديث أن تكون كلمته قوة وحركة وفعلا، غير أن الزمن لم يلبث أن حول الكلمة على لسانه إلى حجر كما قال أدونيس في قصيدة (السماء الثامنة) من ديوان (المسرح والمرايا)، فعاشت الكلمة بذلك غربتها الذاتية في واقع لا يربي سوى الصدى وخنق الجهر، وقتل الكلام الصارخ، مما جعل الشاعر يلوذ بالصمت، كما فعل البياتي في قصيدة (إلى أسماء) من ديوان (سفر الفقر والثورة) رغم كونه عذاب وسكون وحزن، حين اكتشف أن نضاله بالكلمة لن يتجاوز تصوير الواقع البشع الذي خلقته الهزيمة وحكمت عليه بمعاناته والاكتواء بناره، دون أن تمتلك الكلمة ميزة الحركة والفعل.
خلاصة الفصل:
هكذا شكلت هذه التنويعات الأربعة الأبعاد المختلفة لتجربة الغربة لدى الشاعر العربي الحديث والتي تبلورت في مفهوم دال واحد هو: الغربة في الواقع الحضاري، سواء تمظهرت من خلال جانب واحد أوأكثر، فقد كان هدفه الأساس هوالبحث عن الخلاص الكلي إيمانا منه أن وراء كل ظلمة نوراً، وأن الموت نفسه وسيلة إلى الحياة حين لا تبقى أية وسيلة أخرى، فكان هناك ارتباط وثيق بين معاني الضياع والغربة ومعاني اليقظة والتجدد والبعث، وحصل تداخل بين بين المعاني جميعها في قصائد الشعراء المحدثين.