مسألة العلمية في العلوم الإنسانية
ما طبيعة العلوم الإنسانية؟ هل يمكن تحقيق علمية بخصوص موضوع الإنسان وهو الكائن الذي يتميز بخصائص تجعله كائنا فريدا مختلفا كل الاختلاف عن المادة بجميع أنواعها؟ كيق يمكن تحقيق علمية بكائن يتميز بالوعي والرغبة والإرادة والخيال؟
تعرف العلوم الإنسانية عموما بكونها العلوم التي تتخذ الإنسان موضوعا لها، ولقد نشأت متأخرة تاريخيا مقارنة بالعلوم الحقة.
المحور الأول: موضعة الظاهرة الإنسانية:
- هل يمكن اعتبار الإنسان موضوعا للدراسة العلمية؟ هل يمكن تطبيق منهج صارم على الإنسان قياسا لما يتم في العلوم التجريبية؟
جواب 1: أوجست كونت: من الممكن أن يصبح علم الاجتماع مثلا علما حقيقيا، ولذلك يمكن اعتباره "فيزياء اجتماعية"، ويدل هذا النعت على إمكانية استعمال المنهج التجريبي كما هو الشأن في الفيزياء والحصول على نتائج يقينية...
جواب 2: إميل دوركايم: من الممكن دراسة الظاهرة الاجتماعية دراسة علمية وفق "قواعد منهجية" خاصة بعلم الاجتماع مثلا، والحصول على نتائج جد مقنعة كما تم ذلك في دراسة ظاهرة الانتحار من طرف دوركايم نفسه.
يعبر هذا الموقف عن نزعة علمية هي موضع جدال بين المتخصصين في هذا المجال وذلك لخصوصية الظاهرة الاجتماعية مقارنة بالظاهرة الطبيعية.
* نقد النزعة العلمية في العلوم الإنسانية:
- جان بياجي: توجد عدة عوائق تعترض تحقيق العلمية في العلوم الإنسانية تتعلق بطبيعة موضوعاها. فالعلوم الإنسانية تتميز بخصوصية تتمثل في كون الذات الملاحِظة تلاحظ ذاتها (الذات الأخرى موضوع الدراسة)، مقارنة بانفصال الذات عن الموضوع (على الأقل بشكل عام) في العلوم التجريبية. يتعلق الأمر بتداخل الذات والموضوع إضافة إلى التزام الباحث بمواقف فلسفية وإيديولوجية.
- وهو الأمر الذي يشدد عليه أيضا فرانسوا باستيان: لا يمكن للباحث الاجتماعي أن ينفصل كباحث عن مجتمعه كموضوع للبحث لأنه ينخرط رغما عنه، بفعل إكراهية وقسرية الظاهرة الاجتماعية في مواقف وصراعات ومعتقدات مجتمعه.
يقول نوربرت إلياس موضحا هذا الإشكال: "لا نحتاج لكي نفهم جزئية من جزئيات الذرة أن نحس بأنفسنا كما لو كنا ذرة من الذرات، لكن للنفاذ إلى داخل التجربة الجماعية والفردية ولفهم نمط اشتغال الجماعات البشرية لا بد من مشاركة وانخراط فعالين في هذه التجارب".
تعليق: يبين هذا القول الفرق الجوهري الذي لا يمكن تخطيه بين موضوع العلوم التجريبية وموضوع العلوم الإنسانية.
ونفس الأمر نجده قبل ذلك عند أحد كبار الأنتروبولوجيين، وأب الأنتربولوجية البنيوية كلود ليفي ستروس الذي يعتبر الوعي العائق الرئيسي لتحقيق علمية في العلوم الإنسانية شبيهة بالعلمية المحققة في العلوم التجريبية، وهذا يتأسس على ثنائية الذات والموضوع المميزة لعلوم الإنسان.
يقول: "إذا كانت العلوم الإنسانية علوما بالفعل، فينبغي عليها أن تحافظ على ثنائية الملاحِظ والموضوع الملاحَظ، وأن تعمل على نقلها إلى داخل الإنسان. وإن أرادت هذه العلوم الإنسانية أن تتخذ من العلوم الحقة نموذجا لها، فلا ينبغي أن تتخذ الناس الذين تلاحظهم موضوعا لتجربتها وحسب، بل ينبغي أيضا أن لا يشعر هؤلاء الناس بأنهم موضوعات للتجربة، وإلا غير حضور وعيهم مسار التجربة بطريقة غير مرئية، وهكذا يبدو أن الوعي هو بمثابة العدو الخفي لعلوم الإنسان".
المحور الثاني: التفسير والفهم في العلوم الإنسانية:
- إذا كانت العلوم الحقة تقوم بعمليتي التفسير والتنبؤ فهل بإمكان العلوم الإنسانية القيام بذلك أيضا؟
- جواب 1: ك.ل.ستروس: يصعب استعمال التفسير والتنبؤ في العلوم الإنسانية لأن موضوعها لا يقبل الاختزال إلى شيء، لذلك تظل العلوم الإنسانية تتأرجح بين التفسير والتنبؤ من جهة، والفعالية الذاتية للباحث من جهة أخرى.
- جواب 2: ف.دلتاي: تستعمل العلوم الإنسانية الفهم بدل التفسير، وطبيعتها تمنعها من قبول المنهج التجريبي لأن استيراده إليها من خارجها يعني تحويلها إلى شيء وطمس خصوصيتها وتميزها ببعدها الإنساني. يجب إبداع منهج ملائم للعلوم الإنسانية من العلوم الإنسانية ووفق احتياجاتها واحترام مميزاتها.
- إذن: لا يصلح التفسير ولا التنبؤ لغياب الضرورة والحتمية والثبات والتكرار مثلما هو الأمر في عالم الأشياء الطبيعية، ويحل الفهم كبديل يدل منذ المنطلق على تعامل الوعي مع الوعي كموضوع، ومع الذاتية كمكون موضوعي وليس ذاتيا. ("نفسر الطبيعة ونفهم الحياة النفسية" يقول دلتاي)
تطبيقات:
- نص لكلود ليفي ستروس. (ثنائية الذات والموضوع في العلوم الإنسانية ومشكلة الوعي كعائق أمام العلمية)
- نص لكارل بوبر: (النسبية واستحالة التعميم والتجربة في العلوم الإنسانية إضافة على العمل بالماهيات كمميزات للعلوم الإنسانية)
- نص لفرونْد: (يجب طرح مسألة العلمية من منظور ابستمولوجي: علاقة الواقع بالمعرفة)
المحور الثالث: نموذجية العلوم التجريبية:
فرضت مسألة العلمية في العلوم التجريبية وأسبقيتها التاريخية ونموذجيتها بالنسبة للفكر الإنساني الموضوعي، والبحث عن موضوعية مشابهة في علوم الإنسان إضافة على سيادة النزعة العلموية والاختبارية والموضوعية إلى تبني نموذج العلمية في العلوم التجريبية كنموذج مطلق. لكن العوائق التي ترتبت عن هذا الاختيار من تشويه لطبيعة الموضوع المدروس، وانحرافات منهجية وعم التوصل إلى موقف أو نتيجة موحدة فرضت التشكيك بل والتراجع عن هذا الاختيار.
يمكن المقارنة بين موقفين متعارضين في هذا الصدد: موقف مؤيد لاتخاذ المنهج التجريبي كمنهج للعلوم الإنسانية مع بعض التعديلات الطفيفة التي تفرض نفسها، وموقف معارض لهذا الاختيار بحجة أن الإنسان يدرس ككل متكامل وأته كائن لا يمكن التعامل معه إلا من منطلق المعنى والقصد والقصدية والتأويل والشعور واللاشعور والأخلاق...
الموقف الأول: حسب "طولرا" و"وارنيي" تتوحد الذات بالموضوع في علوم الإنسان، ويصبح الملاحِظ ملاحَظا في نفس الوقت مما يدع مجالا كبيرا للشك في مصداقية النتائج المحصل عليها، لكن إذا تأملنا في ما يميز الفيزياء المعاصرة من تداخل بين الذات الباحثة والموضوع المبحوث بسبب عدم إمكانية اعتماد التجربة العلمية الكلاسيكية لطبيعة الموضوع اللامتناهي الصغر، وهو الأمر الذي لا يقلل من علمية النتائج المحصل عليها رغم تدخل الذات الباحثة، فإن تداخل الذات والموضوع في العلوم الإنسانية لا يصبح عائقا أمام العلمية، مادام هذا النموذج من العلاقة أصبح موجودا في العلوم التجريبية نفسها وهي النموذج المحتذى.
لكن ميرلوبونتي، يعارض هذا الموقف بشكل صارم معتمدا على أن الإنسان هو مصدر المعنى، وهو الوحيد في الكون المتميز بالتفرد والأصالة وأنه غير للاختزال إلى الخلايا المكونة لجسمه، أو إلى مكونات الإنسان الكلاسيكية مثل العقل والسياسة والاجتماع... ولست ظاهرة واعية منفصلة عن مكوناتها الأخرى مثل الغرائز والمكونات اللاعقلية واللاواعية.. . ليس بوسع أي علم أن يستغرق وحده دراسة الإنسان... لأنه كل لا يتجزأ، وهو المنبع لكل ما عداه وما يكونه، وباعتباره كذلك لا يمكن إعادة تشكيل حياته بعد وحصر ودراسة مكوناته...