الشخص
مقدمة
يعتبر الشخص حاصل جمع السمات المميزة للفرد الذي ما هو إلا كيان سوسيو-سيكولوجي متشابه مع الآخرين.ورغم تعدد وتنوع بل وتعارض الحالاتالنفسية التي يمر منها الشخص طيلة حياته إلا أن كل واحد منا يحيل باستمرار إلى نفسه بضمير "أنا" بوصفه هوية تظل مطابقة لذاتها على الدوام. غير أن هذه الهوية التي تبدو بديهية تطرح مع ذلك أسئلة عديدة.
هل تقوم هوية الشخص على الوحدة والتطابق أم على التعدد والتغير؟
المحور الأول: الشخص والهوية.
يبدو واضحا أن تحديد هوية الشخص استنادا على المظهر الخارجي للشخص أو حتى على مجموع مميزاته سواء المتعلقة بالجنس والعمر والعمل ...ضربا من ضروب المستحيل لكون كل هذه الاعتبارات متغيرة وبالتالي غير قارة وثابة.
ولهذا السبب كانت ضرورة مقاربة هذه الهوية من خلال ما هو قار وثابت في الشخص باعتباره نظاما.
حسب لاشوليي المحدد الرئيسي للشخص هو هويته،أي تطابقه مع ذاته وبالتالي تميزه عن غيره. أما وحدته النفسية عبر جل مراحل حياته فهي الضامن لهذه الهوية،لأنهما ليستا نتاجا تلقائيا،بقدر ما أنهما نتاج لآليات ربط وهي آليات نفسية تقوم بمهمة السهر على وحدة الشخص وتطابقه.أولها وحدة الطبع أو السمة العامة للشخصية في مواقفها وردود فعلها تجاه الآخرين.وعلى هذا النحو يرى لاشوليي أن كل من وحدة الطبع أو السمة العامة للشخصية هي ضمان هويتها إلى جانب الذاكرة التي اعتبرها آلية ضرورية لربط حاضر الشخص بماضيه القريب أو البعيد.
أما ديكارت فيذهب إلى تأكيد أهمية الفكر في بناء الشخصية وفهم حقيقتها، فالفكر صفة تخص الذات الإنسانية وهي وحدها لصيقة بها. والتفكير هو الشرط الضروري للوجود .
إذن أساس هوية الشخص هو التفكير الذي يعتبر مناسبة لحضور الذات أمام نفسها وإدراكها إدراكا مباشرا لكل ما يصدر عنها من أفعال والتي تبقى رغم تعددها واحدة وثابتة .
لكن جون لوك يعطي تعريفا للشخص باعتباره ذلك الكائن المفكر والعاقل القادر على التعقل والتأمل حيثما كان وأنى كان ومهما تغيرت الظروف، وذلك عن طريق الشعور الذي يكون لديه عن أفعاله الخاصة وبشكل مستمر دون حدوث أي تغير في جوهر الذات، فاقتران الشعور بالفكر على نحو دائم هو ما يكسب الشخص هويته ويجعله يبقى دائما هو هو، باعتباره كائنا عاقلا يتذكرأفعاله وأفكاره التي صدرت عنه في الماضي وهو نفسه الذي يدركها في الحاضر .
إن مفهوم الشخص حسب جون لوك يتخذ عنده بعدا أخلاقيا /قانونيا، فالشخص الذي يتحدث عنه لوك هو ذاك الكائن المفكر الذي يعقل ذاته وأفعاله مهما تغيرت الظروف وتوالت الأزمان، وبالتالي يكون عن طريق الوعي مسؤولا مسؤولية قانونية عن كل ما يصدر عنه من أفعال. من هنا فأساس هوية الشخص حسب جون لوك هو الشعور الذي يجعل الإنسان يدرك ذاته ويبني معرفته بذاته على نحو دائم فيصبح الشخص إثرها هو هو رغم ما يلحقه من تغير . والذاكرة التي هي امتداد للشعور عبر.
المحور الثاني:الشخص بوصفه قيمة.
لا يختلف اثنان عن أن الإنسان كائن مميز بين كل الكائنات الأخرى ،فهو الكائن الأكثر جدلا كما جاء في القرآن الكريم(ولقد صرفنا في هذا الكتاب من كل شيء وكان الإنسان أكثر شيء جدلا) وميزته تكمن في مدى بعده القيمي الذي حظي به. لكن أين تكمن قيمته؟هل تكمن في كونه غاية أم أنه لا يعدو يكون مجرد وسيلة؟
في هذا الصدد يختزل مونييه تصوره للشخص ككيان يتميز بالإرادة والوعي والتجاوز بخلاف الأشياء الخارجية أو الموضوعات التي هي كائنات متطابقة كليا مع ذاتها.وهو يكتسب باستمرار سمات شخصيته ويغنيها عبر عملية التشخصن.فالشخص ليس معطى نهائيا ناجزا بل هو عملية اكتساب ومراكمة مستمرة لسماته الخاصة.
يذهب كانط إلى تأكيد أهمية الشخص كذات لعقل أخلاقي عملي، يعامل الآخرين لا كوسائل يحقق من ورائها أغراضه الخاصة، وإنما كغايات بذاتها. فالإنسان يتميز داخل نظام الطبيعة عن باقي الكائنات الأخرى بامتلاكه لملكة الفهم، وقد استطاع أن يرسم لذاته غايات وأهدافا مشروطة بنداء الواجب الأخلاقي .فيمكنه أن يتخذ من الأشياء وسائل يستخدمها لتحقيق أغراضه لكن ليس من حقه أن يعامل الأشخاص كوسائل ذاتية نفعية، لأن الإنسان أوالذات البشرية هي غاية في ذاتها وليست وسيلة لتحقيق أغراض الآخرين، وهذا ما يمنحه قيمة داخلية مطلقة ويكسبه احتراما لذاته ويمتلك بذلك كرامته الإنسانية .
أما هيجل فيكشف عن القيمة الأخلاقية للشخص التي لا يمكنها أن تتحقق إلا داخل حياة المجموع، فكل شخص حسب هيجل وانطلاقا من المكانة التي يحتله اداخل الجماعة التي ينتمي إليها عليه الالتزام بواجباته والقيام بدوره والمهام التي أسندت له ... إنها دعوة للانفتاح على الواقع والآخرين من خلال علاقة جدلية أساسها التأثير والتأثر ومعيارها يكمن في السلوك الأخلاقي الذي يصدر عن كل شخص امتثالا للواجب الأخلاقي .
فالشخص يكتسب قيمته الأخلاقية حسب هيجل عندما يعي ذاته وحريته وينفتح على الواقع الذي ينتمي إليه بالدخول مع الجماعة في علاقة تعاون متبادلة امتثالا للواجب.
المحور الثالث: الشخص بين الضرورة والحرية.
إذا كانت قيمة الشخص تكمن في بعده العملي الأخلاقي أكثر من أي شيء آخر، فهل يعتبر الشخص كيانا حرا مستقلا عن أي إلزام أو إكراه، أم أنه خاضع لضرورات وحتميات لا سبيل لديه للانفلات من رقابتها؟
يرى ديدرو أن الشخص لا يملك الحرية،وأن هذه الأخيرة لا معنى لها لأن الموجه الفعلي لأعمالنا هي الأسباب الفيزيائية الخارجة عن ذواتنا التي ترغمنا للضرورة وليست الحرية.وعلى هذا النحو تكون أفعالنا نتاجا لعاداتنا الأمر الذي يجعلنا نخلط بين الإرادة والحرية.فليست الحرية ما يميز بين الناس،بل إن ما يميز بينهم هو الإحسان أو الإساءة،وهما طبعان لا يمكن تغييرهما لدى الإنسان.
ويذهب سبينوزا إلى اعتبار أن ما يميز الشخص عن باقي الكائنات الأخرى،هو سعيه للحفاظ على بقائه واستمراره،وهو سعي يتأسس على الإرادة الحرة.وليست الحرية هنا بمعنى الجواز،بل إنها تقترن بالفضيلة والكمال،وليس بالعجز أو الضعف،وفق ما تقتضيه قوانين الطبيعة الإنسانية من قدرة على استخدام العقل للتمييز بين الخير والشر،وتفضيل الأول على الثاني.
أما سارتر فينطلق من تقرير أن ماهية الإنسان لا تتحدد قبل وجوده، بل يوجد أولا ثم بعد ذلك يصنع بنفسه ما يشاء، فالإنسان في نظره مشروع يتميز بالتعالي على وضعيته لا بانغلاقه على كينونته، بل ينفتح على العالم وعلى الآخرين .فان ذل هذا فإنما يذل عن مدى قدرته على موضعة ذاته في المستقبل.
فماهية الإنسان لاتتحدد حسب سارتر إلا من خلال وجوده وحياته وأفعاله واختياراته وعلاقاته، يوجد أولا ويلاقي ذاته وهو غير حامل لأية صفات أو ماهية قبلية. إنه شخص حر ومسؤول عن أفعاله واختياراته، فهو حر حرية مطلقة غير مقيدة بموانع وإكراهات .
خاتمة:
وكتخريج عام يلاحظ أن التصورات الحديثة ركزت على اعتبار الشخص ذاتا مستقلة،ومتميزة،ينظر إليها كغاية في ذاتها وكحرية،وليس كبضاعة أو وسيلة وذلك في مقابل التصورات التشييئية للشخص التي كانت انعكاسا لمخلفات الرأسمالية الامبريالية .