المنهج الاجتماعي في دراسة الأدب
يستمد الأدب جانبه الاجتماعي من كونه مؤسسة اجتماعية أداته اللغة التي هي نفسها من خلق المجتمع .
فالأدب ينبثق من المجتمع ويكتب له ذلك أنه يمثل الحياة تمثيلاً حقيقياً والحياة هي الحقيقية الاجتماعية التي يمكن لنا أستيارها من خلال الفكر و الأدب .
لقد كان الأدب العربي شعراً ونثرا يمثل الحياة الاجتماعية العربية أصدق تمثيل في جميع جوانبها فقد رسم لنا الأدب الجاهلي العادات والصور الاجتماعية بشكل واضح حتى أنه يمكن القول إننا لم نتعرف على صور المجتمع العربي الجاهلي إلا من شعره والمتصفح لدواوين الشعراء الجاهليين يجد قيماً وأنماطاً من السلوك تتحدث عن الشجاعة والبطولة والكرم ونصرة المظلوم وحماية المرآة والثأر والانتقام وغيرها . مما جعلهم يقولون بحق (الشعر ديوان العرب ) وهذا ينقض ما زعمه الدكتور طه حسين في كتابه ( في الشعر الجاهلي ) من أن الشعر الجاهلي لا يمثل الحياة الجاهلية . وكذلك كان الأدب الإسلامي والعباسي وأدب عصر الدول المتتابعة مع تطور في الموضوعات والأغراض والمضامين . لقد كان الشاعر العربي بصفته عضواً في مجتمعه منغمساً في وضعه الاجتماعي ويتلقى فيه نوعاً من الاعتراف ، لأنه يخاطب جمهور القبيلة .وفي المجتمع البدائي لا يمكن فصل الشعر عن اللهو والسحر والشعائر .
لقد كان للشعر الجاهلي كما يقول الدكتور عبد المجيد رزاقط (( بعض نشاط الإنسان الجاهلي في مواجهة الحياة ، فهو مرتبط بالدين والعمل والعلاقة بالآخر والمحيط ، ولعل ارتباطه بالدين والعمل هو الذي جعله نوعاً من الفناء فهو إنشاد وحداء وليس نظماً أو قولاً )) .
ويضيف الدكتور عبد المجيد قائلاً : (( لقد كان السائد لدى الشعراء الجاهليين أن الشعر يصدر عن وحي أو عن إلهام شياطين تسكن وادي عبقر ومما قيل في هذا الصدد قول أحدهم :
وقافية عجت بليل روية تلقيت من جو السماء نزولها
وقول الآخر :
ولي صاحب من بني الشيصبان فطوراً أقول وطوراً هوه
ومن ذلك ما يقول امرؤ القيس :
تخبرني الجن أشعارها فما شئت من شعرهن اصطفيت
أما عبد الله بن رواحة فقد كان يرى في الشعر أنه شيء يختلح في صدره فينطق به لسانه.
هذه النظرة إلى مصدر الإلهام الشعري – ايحاءات شياطين رغم سذاجتها تدل على مفاهيم اجتماعية زرعها المجتمع في فكر الشاعر فهي من صنع المجتمع وتعبر عن خليقته الثقافية القائمة على التفسيرات الغيبية الخيالية المسطحة ، إن الماركسيين رغم اعتمادهم على المحسوس والواقع في نظراتهم الفكرية إلا أنهم لا يدرسون الأدب وصلاته في المجتمع من خلال الواقع وما يفرزه من الراهن وفي مجتمع المستقبل الخالي من الطبقات كما يتخيلونه ونقدم للأدب نقد تقويمي تقييمي قائم على معايير غير أدبية بل معاييرهم إيديولوجية خلقية وهم بذلك لا يتصلون بالمجتمع المعاصر لهم بل بالمجتمع القائم في أفكارهم سواء تحقق أم لم يتحقق واقعياً .
إن الأعمال الأدبية تمدنا بالوثائق الاجتماعية والأديب في هذه الأعمال ينقل لنا الحقيقة ضمن إطارها التاريخي الاجتماعي يقول دي بونالد (( الأدب تعبير عن المجتمع )) فهو يعكس الحياة بجميع صورها ويعبر عنها من جميع جوانبها والأصول الاجتماعية للأديب تمارس دوراً رئيسياً في المسائل التي يثيرها سواء أكان في مركزه الاجتماعي /كخادم للبلاط / أو في فراغه الاجتماعي حين يكون ممثلاً لصورة المجتمع التي ترتسم في أعماقه من خلال ممارساته وعلاقاته البسيطة والمعقدة . إن ولاء الأديب وعقيدته تمثلان المجتمع بأشكاله .سواء أكان ولاؤه حقيقياً ودفاعاً عن قضايا اجتماعية أو كان صورياً مدافعاً قيه عن البلاط دافناً لنظرته الحقيقية للوجه الآخر للمجتمع .
إن جميع الأدباء على الإطلاق يستمدون تجاربهم من المجتمع متأثرين به وفي الوقت نفسه يفرغون هذه التجارب في المجتمع ويؤثرون فيه لأنهم يعيدون صنع هذه الصورة الاجتماعية بالشكل والوجه الذي يرغبون .
ويعتقد / توماس وارثون / أول مؤرخ حقيقي للشعر الإنجليزي (( أن الأدب فضيلة تخصه وهي التسجيل المخلص لسمات العصر والحفاظ على أفضل تمثيل للأخلاق و أفضل تعبير عنها )) لقد كان الأدب العربي رصيداً حقيقياً للحياة الاجتماعية العربية بكل أبعادها و أشكالها .
إِن الأدب كما يقول محمود أمين . العالم ليس ألا موقفاً أجماعياً يحمل في طياته مضموناً ما ويعتبر العالم (( أن الثورة في الأدب هي تنمية الرؤية الموضوعية للواقع الإنساني وتوكيد لقيم الحرية والمساواة وإعلان إنسانية الإنسان وتنمية طاقاته المبدعة للمشاركة في تغيير الحياة وتجديدها )) إننا كما يقول عباس السعدي (( نفهم إجتماعية مضمون الأدب انطلاقاً من اقتناعنا باجتماعية الأديب )) . (( إن الأدب إبداع ذاتي فردي ، ولكن ذاتيته لا تنفي اجتماعيته )) .
ولطالما وقع البرجوازيين في مغالطة حين دعوا إلى / لا اجتماعية / للأدب زاعمين أن ذلك يلغي فردية الأديب مع أن الأدب البرجوازي هو أدب اجتماعي بمعنى من المعاني لأنه يكرس سيطرة طبقة على حساب طبقات أخرى .
إن صراع السلبي مع الإيجابي في الأدب هو صراع اجتماعي بين المرفوض والمقبول وهو مضمون اجتماعي يسعى الأديب إلى إبرازه وهذا لا يعني وضع الأدب ضمن خطوط مسيسة تلزم الخطوط الواضحة لصراع الحياة فالأدب لا يؤدي دوره الاجتماعي إلا حين يعكس بصدق الحياة في صلاتها وعلاقاتها الجوهرية ذلك أن الالتزام نفسه في الأدب ينبثق من الرؤية الاجتماعية والتاريخية .
إن أية نظرة متفحصة للأدب بجميع أشكاله وقوالبه تعزز انتمائية هذا الأدب للمجتمع الذي عاش فيه بحيث لا تخرج هذه النظرة الأدبية عن القضايا التي عاشها الأديب وتأثر بها ، وإن فهم الأديب المتعمق للحياة هو نوع من الادراك الحقيقي لقوانين الحياة والمجتمع.
إن واقعية الأدب وإجتماعيته تأتي من خلال انخراط الشاعر أو الكاتب في قضايا أمته الاجتماعية ولو أدى به ذلك إلى الصدام مع المفاهيم الاجتماعية فالأدب كما يقول نزار قباني : (( عملية صدامية .... عملية استشهاد على الورق والشعر هو الناس هو الشارع)) ثم يضيف قائلاً : (( القصيدة ليست مجرد عملية تطريب أو تخدير يسمعها الإنسان العربي في أمسيته ثم يعود إلى حالته الأولى .... ووظيفة الشعر أن يحرض الإنسان على نفسه ولا شعر حقيقي دون تحريض )) .
(( لقد كانت المرآة كطرف اجتماعي عند نزار كما يقول (( المرآة أرض خصبة ووسيلة من وسائل التطوير والتحرير وأنا أربط قضيتها بقضية التحرير الاجتماعي للرجل والمرآة على السواء )) .
بينما يرى أدونيس أن (( مدى حركة الشاعر العربي محدوداً جداً . محدود بالسطح الاجتماعي وبالسطح السياسي )) لأنه يعتقد أن (( الشعر نقيض للواقع المؤسس المجمد المباشر المبتذل المكرر الذي لا يساعد في الكشف عن حقيقة العالم أو عن أسرار الحياة الإنسانية )) .
والناظر إلى صفحات المجلات والجرائد كما يقول إدونيس (( يرى في معظمها دماء المثقفين تسيل من كل جهة أي أنك لن تجد فيها سوى الاهاجي والشتائم والنقد الجارح والتشويه بمختلف أنواعه )) . وهذا يعني أن الأدباء والمثقفين بعيدون كل البعد عن المفرزات الاجتماعية العربية التي هي لب القضية الأدبية التي تستمد منها المعاناة والتجربة. إن أي أدب لا ينتمي إلى معطيات مجتمعه محكوم عليه بالفشل سلفاً لأن مادة الأديب هي المجتمع منه يغرف وفيه يصب وحتى عند من ينظرون إلى الأدب نظرة حداثية نجد كما يقول الدكتور غالي شكري أن (( النخبة تختار جزيرة مهجورة حتى تتجنب شر القتال )) .
وأي أدب يتجنب شر الصدام والقتال الاجتماعي ليس إلا أطرأ وهمية بل هو هذر كلام لا طائل تحته لأن الأدب روحه المجتمع . وما تزال الفجوة كبيرة وخطيرة بين الحداثيات العربية والقاعدة العريضة من القراء الذين لم يعودوا يجدون المضامين الاجتماعية التي تتحدث عن قضاياهم العامة والخاصة )) .
إن الحداثة الحقيقية كما يراها غالي شكري (( ثورة في المجتمع والفكر والفن )). وليس المبدع فيها إلا : (( إنساناً ثورياً لأنه يدرك أن الحداثة تجربة ورؤيا متناقصان مع الذوق السائد والوجدان السائد والعقلية السائدة ويدرك أن الفكر ينفصل عن الجمال )) .
إن مقولة منتغمري بلجيون : (( الكاتب داعية غير مسؤول )) . غير صحيحة لأنه حقيقة داعية مسؤول عما يقوله فهو يستمد من المجتمع حيث يقوم برفض أو تصويب أو تجديد قضايا تعيش واقع الإنسان فتبني الكاتب لرأي ما أو نظرية ما إنما يكون من خلال قناعات قائمة على أسس عميقة يفهمها هذا الكاتب حق فهمها ويوضحها لقرائه من خلال شفافية أدبية واعية ولا يحكم على مسؤولية الكاتب كما يقول أليوت إلا من ((خلال النية المعلنة والتأثير التاريخي لهذه النية المعلنة )) .
إن الأدب كما يقول مندو (( ضرورة حياتية تشبع في حياة الناس حاجات ملحة لا تقل خطورة عن الحاجات المادية )) . ولذا كان من واجبات الأديب أن يساهم في تنظيم الإنتاج العام وتنمية وتحقيق العدالة )) .
لقد احتدم الصراع بين فردية الأدب واجتماعيته عند البعض وبين وظيفته الجمالية والحياتية ، وهل الأدب هروب وحياد أم هل هو رأي والتزام تجاه القضايا الاجتماعية ؟ لقد قاد هذا الصراع أصحاب الشعر الغنائي للنظر إلى الفن على أنه المعبر عن النفس البشرية وما حديث الأديب عن العالم الخارجي والطبيعة إلا لأنه ينعكس ويتلون بألوان ومع أما نسلم أن أحد جوانب الأدب التعبير عن النفس البشرية فإننا نرى أن هذه النفس نفسها تحفل بالموضوعات الاجتماعية .