و منطقة ال "أنا" تعتبر المنظم الأول لطاقات ال "هو " و الرقيب عليها ، تنظم الدوافع على نحو يسمح به الواقع و يرضى به المجتمع حيث تجنب الذات النهاية المدمرة ، فما يسمح به الواقع يلبى ، و ما لا يسمح به يدفع إلى أعماق ال " هو " و إذا كان عسيرا على ذلك تحول إلى عقد ، و يعتبر الجزء الكبير من منطقة ال " أنا " غير واع . ويسمى الجزء الواعي منه " العقل الواعي " و يسند على ال "أنا" دور الوسيط بين اللاوعي و العالم الخارجي ، و بين الرغبات غير المحدودة التي تقرها الظروف و الشروط الواقعية . و منطقة " الأنا الأعلى " هي المنظم الثاني لمنطقة ال "هو " و الحارس المتيقظ عليها و هو خزان المروءة و الاخلاق و الضمير ... وهي قوة هامة يستنجد بها المجتمع لحماية نفسه من النزوات و الرغبات و الغرائز المدمرة و التي لا يستطيع ال " أنا " وحده تدبيرها أو كبحها أو لجمها و يمارس عمله من خلال ال " أنا " أو مباشرة يقف أمام اندفاع اللاوعي عندما لا يقره المجتمع ، وينمو من خلال تربية الأسرة و المربين و هو محكوم بمبدأ الأخلاق و مبدأ الثواب و العقاب ، فإذا كان نشيطا أدى إلى الإحساس بالذنب.
هذا التقسيم الذي تبناه فرويد لاقى استحسانا من قبل الأدباء و دارسي الأدب و ساهم بشكل كبير في فهم الإبداع و رغم أن فرويد قال إنه مكتشف اللاوعي عند احتفاله بعيد ميلاده السبعين إلا أنه أشار إلى أن الشعراء و الفلاسفة هم مكتشفو اللاوعي و ما كشفه فرويد هو المنهج العلمي لدراسة اللاوعي . ذلك أن علم النفس كما يقول رينيه و بيليك و أوستن وارين في كتابهما "نظرية الأدب" ساهم في الكشف عن عملية الإبداع و في نبش خبايا نفس المبدع وفي الكشف عن غوامض العمل الأدبي.
وفي دراسة نفسية الكاتب يبدو أن العبقرية لدى الشاعر/الكاتب تقرن بالجنون عند الإغريق و تنسب إلى شياطين الشعر في وادي غبقر عند العرب ، و أصبحت حديثا تؤول بالمدى الممتد من العصاب إلى الذهان . فالشاعر رجل مجذوب عند البعض و الموهبة تعويض عن نقص عند الكاتب على مبدأ كل ذي عاهة جبار . فقد كان ابو حيان التوحيدي أعور و ابن سيدة اللغوي الأندلسي أعمى كذلك بشار بن برد و أبو العلاء المعري و ربيعة الرقي و عبد الله البردوني ... و كان بتهوفن أصما و كتيس قصيرا و بروست عصابيا و بايرون أعرجا و لوب اجذب ... فالكاتب عند فرويد عصابي عنيد يصون نفسه بواسطة العمل الادبي من الإنفجار و تثير نظرية الفن كعصاب التي تبناها الكثير من المفكرين مسألة علاقة المخيلة بالاعتقاد فالروئي يشبه الطفل الحالم الذي يحكي لنا الحكايات فيختلط عالم الواقع بتخيل من عالم آماله و ألامه ومخاوفه . و يرى أليون أن الفنان أكثر بدائية كما هو أكثر تحضرا من معاصريه ، و باعتبار أن الكاتب عضو في مجتمعه فهو أكثر الناس تمكنا من التغيير عن أحاسيسه رغم أنه ليس أكثر الناس إحساسا ، و يوفر الكتاب و الشعراء المادة الخصبة للمحلل النفسي لأن شخصيات أعمالهم تمثل نموذجا يمكن دراسته و الحكم عليه . إن أوست وارين يعتبر الشاعر حالم يقظة يحظى بقبول المجتمع ، و بدلا من أن يغير شخصيته ينمي خيالاته و ينشرها قول فرويد : الفنان في الأصل رجل تحول عن الواقع لانه لم يستطع أن يتلاءم مع مطلب لذة الإشباع الغريزي ، فأطلق الفنان كامل رغباته الغرامية و مطامعه الذاتية في حياة الخيال ، ثم وجد طريقا للعودة من عالم الخيال إلى عالم الواقع و هو يصوغ نوعا آخر من الواقع / العمل الأدبي .
إن الأديب إنسان شفاف مشرق الروح و الفكر تتميز أعصابه بحساسية دقيقة تكتشف الواقع بكل أبعاده و معانيه ، و تتحسس الصعوبات التي تتجسد في حياة الآخرين سواء أكانت فكرية أم اجتماعية أم فلسفية و هو في الوقت نفسه يعشق الجمال و الكمال المطلق بفطرته التي وهبها الله إياه ، و باعتبار أن الصراع قائم بين ما هو واقع و بين طموح الإنسان لبلوغ الكمال المطلق فإن الأديب يرسم لنا صورة هذا الصراع و بفترض الحلول المشرقة لصورة الواقع المشوهة . فصورة المرأة في الواقع أقل مكانة من صورتها في الادب و كذلك صورة المعلم كاد المعلم أن يكون رسولا إذا لا يقبل الواقع على ما هو عليه لأن شكل الكمال المطلق الموجود خياله و فكره.
و تدعونا دراسة نفسية الكاتب إلى الكشف عن القوانين النفسية التي تحكم الشخصيات التي يرسمها هؤلاء الكتاب في أعمالهم ذلك أن الإنسان هو محور الأدب و هذا ما يدعونا في قراءتنا لأي نص أن نجد نموذجا للإنسان ما يحملنا على التفكير في الاسباب التي دعت هذا النموذج من الناس إلى التصرف على هذه الشاكلة أو تلك فدون كيشوط سيرفانتس قتل مجموعة من الأغنام و تصورها أعداء له ، و لما اكتشف أنها أغنام و ليست بشرا قال : الحمد لله الذي مسخ أعدائي أغناما و كذلك فعل الشاعر العربي الراعي النميري المصاب بلوثة في تفكيره مع كلب ظنا أنه لص ، و أوديب الذي تزوج أمه و قتل أباه و شهريار الذي كان مولعا بالزواج و القتل ، يتزوج كل ليلة امرأة و يقتلها في الصباح. و شخصيات قصائد نزار قباني من النساء ، لأن مأساة أخته بقيت ماثلة أمام عينيه.
و كثيرا ما يعكس الكاتب دوافعه على لسان شخصياته ، أو كثيرا ما تندفع الشخصيات بالحديث المختبئ في عمق وجدان الكاتب، ذلك لأن الكاتب عضو في مجتمع يستمد منه أفكاره و تؤثر فيه معطياته .
إن شخصيات قصة أرزاق يا دنيا أرزاق للكاتب السعودي علوي طه الصافي هي شخصيات من صميم المجتمع يحكمها دوافع نفسية راسبة في أعماقهم و لا وعيهم ، فأعظم شخصية في هذه القصة تحكمها ألام القهر و الصمت و الفقر و أكثر ما يبعث التناقض في حياة هذه الشخصية أن المغني يجمع الملايين بينما الملايين لا يجدون إلا أوراق الشجر طعاما لهم .و كذلك شخصية الزوج السكير في قصة شمس صغيرة لزكرياء تامر فهو حالم يقظة يتصور الخروف جنيا يمكن أن يقدم له جدارا من ذهب ، و يمكنه بذلك أن يحل مشكلة الفقر التي تسيطر عليه و تسير حياته . فهو رجل تحكمه ال هو بما فيها من رغبات و غرائز.
وبناء على ذلك يمكننا أن نجمل القول بأن علم النفس دخل في صميم الأدب و أصبح نهجا فعالا يساهم في الكشف عن جوانب العمل الأدبي ، و في نبش ذات الكاتب و توضيح اتجاهاته.