وداع
عشر سنوات مرت ، ذهب معها عمر كامل من الالوان ، هل أقول عنها أنها أحلى أيام العمر و ادفن راسي كنعامة في التراب خجلا منكِ و من وطني...
عندما وصلت الى هنا ، بعد رحلة استغرقت في الهواء حوالي أربع و عشرين ساعة من الزمن ، و من روحي خمسة وعشرين خريفا ومن ذاكرتي قلبين.
كانا اثنين ، أحدهما بمعالم سمراء عربية ، و الثاني يبدو أنه لا يزال حديث عهد بالغربة و الإنفصال ،وكان له عينان تغتسلان بالدموع حتى حين يبتسم أو يضحك و كأنه مشروع لحزن قادم.
استقبلاني كمدينة كاملة و حضنتهما كوطن لا زال حضنه ساخنا من فراق قريب.
في طريقنا الى بيت صديقي عرفني صديقي على الثالث ، قال لي "إنه كمال ، و قد جاء حديثا إلى هنا و سيكون رفيقك في بيتك الجديد، ريثما تتخلصان من بعضكما ،و ضحكنا معا ، واستغرق هذا التخلص عشرة أعوام كاملة...
ساقنا الوقت الى البيت الجديد الذي سيضم كلينا ، دخلنامعا ،كان صامتا ، أو مرتبكا ، ولكنه تدارك وقال لي :”هذه غرفتك ، هذه غربتك، وأنا على الطرف الآخر ، ستصمت طويلا قبل أن تبدأ الكلام"
كان لاشك حزينا ، أو ربما أدرك كنه الحياة أو مغزاها أكثر من هؤلاء الذين يمشون في الأرض مرحا لا يلوون على شيء.
قال كمال يومها" هل تعلم انني بانتظاري لك في المطار كنت انتظر روحا أخرى غير روحك و لكنها لم تأت".
عرفت أنه كان يقصدكِ انتِ ، بل كان ينتظرك أو ربما كان يراك..
رأيت صورتك أول مرة في غرفته ، مائلة قليلا ، شدتني الصورة و صمت قلبي ، و عاد للخفقان عندما قال لي هذه صورة اختي صديقة عمري و دعتها وهي ابنة الثمانية عشرعاما، وبوداعها أغلقت كل الأبواب.
عشر سنوات ، هل أبالغ إذا قلت أنها مرت كلمح العمر.
هذه السنوات نسجت قصتي معك على مهل ، و تكاثفت خيوط السجادة لتفترش الارض تحتنا حبا و حزنا.
كان ما بيني و بينك من مسافة محيط عريض و أكثر من بحر .و كان فصل حكايتنا الأول قد بدأ عندما قلت لي على الهاتف في اتصالك الأول: "حبيبي" معتقدة انني كمال ، و فعلا كنت سعيدا جدا بصوتك و بمباغتتك..وأما كمال الذي شهد صناعة الزجاج الأول لمزهرية هذا الحب فكان دائما يقول "عندما أرى حبكما أشعر أن عمرا آخر كتب لي...”.
اكتب هذه الكلمات بعد سنوات عشر، ملأناها مطرا و ذاكرة ، و كان أسوا خبر فيها هو الخبر الذي توقعته دوما و كذبته ، عندما أخبرني كمال أنك تزوجت و أنه لم يخبرني بذلك من قبل خشية رقص الروح الذي كان يمكن أن يؤذي احدا ما.و كان يبكي و يقول :" أنا قهرتها بغيابي و أما أنت فقهرتها بحبك..”.
لا شك أنك في الفترة الأخيرة بدأت تكتمين الحب و تتهربين من الحاحي ، و في اكثر من مناسبة كنت تصرين على أن أعود لزوجتي التي طلقتها منذ سنين ، و ابنتي التي اكتشف مرضها مؤخرا. و حالتها سيئة جدا..و تقولين "أنا لست لك في هذا العمر ، ربما في العمر القادم"
اليوم اودع كمالا، بحنانه ، ببريق عينيه ، رفيق القلم و الغربة و الاضطهاد المزدوج في الوطن و خارجه , اودع من احتواني أخا و ترابا، و ارتباكا...
وانا الأن انتصب ملحا بطعم المرار وانا اودع كمالا، الذي يلملم حقائبه امامي بحيويته المعتادة ، و يتركني اراقب وداعه حقيبة حقيبة ، و قطعة قطعة.
وكلما مر على شيء يقول لي :” هل أتركه لك ؟ و لاينتظر جوابا ، و يمر بعينه عليه و يقول الى لقاء.
لملم اللوحات ، و الاوراق ، وكل شيء ، و عندما وصل الى صورتك قال " سافرح للقاءها بعد هذا العمر من الغياب و لكني ساحزن لفراقكما ، كنت شهيدا على حب حب يموت ثم يبعث حيا ، مسيحا آخرا بلا مائدة.”
ثم سالني أن كنت اود ترك الصورة ، و اجبته و هل نمتلك حق التصرف بتماثيل المدن القديمة ، يضحك ويحزن ويصمت .و يتركها على جداري عنوانا للحرية.
حضن الجدران ، قبًل الأرض ، صافح الأبواب ، وعانق كل بقعة لمستها يدانا ، ثم نظر الي ( و كان يعلم بمشكلتي ، و يعلم أنني لا استطيع العودة إلى وطن قتل ابي، و رماني بدم كذب.
وسالني ان كنت أود ارسال شيء ، قلت "هل تأخذ لي هذه الأوراق و تعطيها لإمرأة تنتظر وصولك وغيابي لتزف الى رجل غريب ، و تأخذ كلماتي تعميدا لأثم سترتكبه بلا هدف سوى الغياب.”. ثم أعطيته لوحة رسمها صديقنا ،فيها انا و انتِ ، كتبت بالهيروغليفيه ، ابجدية تغفر ذنب وجودنا معا عريسين مثقلان بالفرح و الذاكرة.
عندما يصلك كمال ستجدين رائحتي متعبقة بأطرافه و لوني ممزوجا بلونه ، وشفتاي مزروعتين بشفتيه، احضنيه، اغرسي اصابعك في صدره و اخرجي قلبي الذي اودعته هناك، و شديه إليك ليزداد الرأس قسوة ، ثم ارميه و أعلني على موتي الحداد و افرحي بكمال زائرا من الزمن القديم...
ها أنا اركب بجانب كمال في سيارة تقودنا الى المطار ، و اتابع الكتابة لك ، يمشي هو مسرعا ،و أطلب منه أن يتمهل قليلا ، و يقول :"اريد أن اختصر عشرة من السنوات مرت ، اشعر ان روحي مشرعة ذراعيها ، سأحضن التراب و ألامكنة و احضن أمي و أختي " ابكي على ورقي هذا و يبكي على طريقته و يمضي .و نترك للدمع حديثا آخر غير الصمت....أحبك.
تضع الرسالة على وجهها بدموعها ، و تهز رأسها ، و صوت النواح العميق يتحول الآن إلى صراخ تنظر ما بين السطور:
"هل تعلم ياحبيبي ، يا شقيق كمال، انه لم يصل إلينا بعد؟
هل تعلم أن حقائبه وصلت بلا روح، و انه الآن جثة بلا أرض و لا وطن ، و هولا يزال هائما في
طائرة تتردد بالوصول.
هل قال لك أنه سيموت ؟ و هل أخبرك أنه على موعد مهم في المطار القادم مع غريب اسمه الفناء بعمر الورد ، قل له أن ياتي ، و ألا يبخل بالوصول ، سيكون له كما كان كرسي يسامرنا ، يجمع بيننا ، يربت على كتف وهمنا ، يمسح تجاعيد الوقت ، و يقول للنسيان لم تعد تحتاجك اللحظة فالغياب مشكاة الحضور ، و بانتظار وصوله ها انا ارسم على وجه الارض خارطة تشبه يتمي."
تستيقظ على لمسة حنان ، يلقيها أب أتعبه الزمن المر، و أتعبه التشظي ، يحملها اليه ،يحضنها الى وجع في الصدر ، و يقول لها "كمال لم يمت ، بانتظاره سنبقى كما كنا أبدا،نحلم بيديه و بابتسامته و بعرسه ،و سيبقى غريبنا الذي بعد عام سيأتي"
اجلس على كرسي اخر غير الذي كنا نجلس عليه ،و يحيط بي مزيد من الاشياء و الاحداث و القليل القليل من المكان و الوقت .