ثلاثون عاما مرت على تلك الليلة.. لكن أشرف ما زال تحت وطأة الإحساس بهولها، كأنها حدثت البارحة.. ثلاثة عقود.. يحاول أن يرمي الماضي وراء ظهره.. معزياً نفسه بالقول (كنت صغيراً، في العاشرة.. لم تدرك تماما ما تفعل.. لم تكن تقصد !!) كان الأمر بالنسبة له أشبه بلعبة صبيان، كالاستغماية مثلاً، أو ربما لعبة الكاوبوي حين كان يمسك كل واحد منهم بمسدس بلاستيكي يطلق الماء.. أو مسدس يفرقع بصوت عال.. أو حتى بقايا مسدس محطم.. بعض الأولاد الأقل حظاً.. الأقل مالاً، يمسكون بأي شيء له قبضة، أي شيء أقرب إلى شكل المسدس، قطعة من خشب.. أو قطعة من حجر رملي ينحتها لتغدو شبيهة بالمسدس، وبعضهم كان يمسك عظمة فك سفلي لخروف نافق.. ويلاحقون بعضهم البعض بين الصخور البحرية، ينصبون الكمائن.. فيتظاهر المغلوب بالموت، وينسحب من اللعبة.
لكنها لم تكن تلعب، ولم تك تتظاهر بالموت، كان موتها حقيقياً، ولن تعود أبداًً لتلعب معي.
يريد أن ينام ويطرد صورتها من رأسه، بصعوبة ينجح بالنوم، لكنه ما يلبث أن يستيقظ مذعورا، أنفاسه سريعة متلاحقة.. لتأمين ضخ الأوكسجين اللازم إلى القلب الراكض، كان تماماً كعداء وصل خط النهاية في ماراتون، تمر دقائق قبل أن يستعيد شيئاً من هدوئه، وتنتظم دقات قلبه.
تفاصيل الجريمة تلاحقه، صورة صورة، رغم قدمها، حدث هذا في ظهيرة يوم صيفي، الحي هادئ.. والمنزل يخيم عليه السكون، لايوجد في المنزل سوى والدته، تأخذ قيلولتها اليومية، تريح الظهر المنهك من أعمال المنزل اليومية، وتستعد لمتابعة العمل، على ماكينة الخياطة اليدوية .
يومها، صعد إلى سطح المنزل الواقع في الطابق الثاني من البناء المسور بحديقة تحيطه من أربع جهات، كان يحلو له الصعود إلى سطح غرفة الحمام والطواف بعينيه على جهات البلدة الأربع.. ثم يعود بصره ليستقر على مراكب الصيد الراسية على مسافة قريبة من الشاطئ، وهناك من المنارة كما كان يحلو له تسمية موقعه.. لمحها.. لكن ليس في البحر.. بل في الأسفل .. في الحديقة، لم يفكر في الأمر.. لم يخطط له.. يلمح إلى جانبه حجر الخفان الممتلئ، يتناوله، يصوب عليها.. يسقطه من يديه.. في نفس اللحظة ترفع بصرها إلى الأعلى، فتلمحه هناك.. فوق السطح، وتلمح الحجر الساقط باتجاهها، تحاول تغيير مكانها، لكن الوقت لم يسعفها، والحجر الثقيل الساقط من علو بسرعة كبيرة، يصيبها بين الرأس والظهر.. تحاول التحرك دون جدوى، يبدو واضحاً أن ظهرها قد كسر.
بجزع شديد.. يتلفت يمنة ويسرة .. كان محظوظاً.. لم يشاهده أحد.. يقرر العودة إلى البيت وتجاهل الأمر.. ولكن ماذا عند اكتشاف الأمر.. سيكون أول المشتبه بهم.. فمن غيره هناك.. ومن غيره ليفعلها.. يقرر التصرف بسرعة قبل أن يتنبه أحد.. ينزل درجات السلم، قافزاً كل أربع درجات بقفزة واحدة، أقل من دقيقة.. كان هناك عند رأسها.. مازالت تتنفس.. لم تمت بعد.. للحظة فكر بحملها إلى المستشفى القريب.. ولكنه خشي سوء العاقبة.. لن يستطع الهرب من الأسئلة.. ستلاحقه العيون بالاتهام .. سبق وشاهد أفلاماً سينمائية.. لاأحد يفلت بجريمته.
بسرعة ذهب إلى صندوق الخردة الذي ركنه والده في الحديقة منذ سنوات.. جره بصعوبة من مكانه، حدث نفسه قائلاً: (ليس من الضروري أن تكون عميقة جداً.. هنا.. في زاوية السور، خلف شجرة التين، لاأحد يدخل هنا إلا أنا وهي.. وبعد أن أعيد الصندوق إلى مكانه سيختفي القبر) تناول المعول من الصندوق، وبدأ بالحفر.. ذكره لون التراب الأحمر بلون الدم.. تصبب عرقه غزيراً.. أسرع بالحفر.. لاشيء أهم من ذلك.. لا يدري من أين جاءته القوة للحفر.. حفر وحفر حتى اطمأن أن الحفرة كافية.. مال عليها يجرها من يدها إلى الحفرة.. لم تكن قد توقفت عن التنفس بعد.. رغم أن عينيها مغمضتان (ربما من ألم الانسحاق تحت ثقل الحجر) قال لنفسه.. لكنه تراجع مرعوباً عندما فتحت عينيها للمرة الأخيرة ونظرت إليه تلك النظرة التي تطارده حتى اليوم.. لم يكن في نظرتها حقد أو كره.. إنما ارتسم فيهما سؤال.. لماذا؟!!قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة، بسرعة جرها إلى الحفرة، وطمرها بالتراب، ثم أعاد الصندوق إلى مكانه.
بعد أن انتهى من الدفن، انتبه أن حذائه مخضب بالدماء.. عليه أن يمسح الدم عن الحذاء.. تذكر أنه رأى رزمة ورقية في صندوق الخردة.. تناولها، نزع بعض أوراق.. مسح حذاءه جيداً، وأخفى الورقات الملوثة بالدم تحت التراب، وبعد أن اطمأن إلى جودة عمله، صعد مسرعاً إلى غرفته، مغلقاً الباب خلفه، وبعد أن هدأ قليلاً.. انتبه إلى أن الرزمة ما تزال في يده.. فتح باب الشرفة ورماها إلى زاوية الحديقة، مصوباً على الصندوق المفتوح هناك.. بين شجرة التين والحائط، لكن الرزمة انفتحت وتناثرت منها الأوراق طائرة.. حط قسمٌ منها في الحديقة، والقسم الأعظم توزع على الشارعين المتقاطعين عند زاوية الحديقة، أغلق الباب بسرعة، وتلك الليلة ذهب إلى فراشه، متعللاً بألم الرأس.
قضى ليلته متقلباً في الفراش.. النوم جافاه، حدث نفسه.. صباحاً يفتقدونها.. وتبدأ الأسئلة، أين هي؟ من رآها آخر مرة، هل هربت ثانية، ربما وربما وربما.. بعدها سيبدأ البحث وعند.....
لكنه توقف عن محادثة نفسه بعد سماعه جلبة وضوضاء، تعالت بعدها أصوات قبضات تقرع باب الدار كأنما تريد اقتلاعه من مكانه.. هب الجميع من أسرتهم واتجهوا نحو باب المنزل، صرخ والده يسأل من الطارق؟!! جاءه الرد قوياً مدوياً.. أفقده الجميع توازنهم.. وجمد أشرف مكانه، غادر الدم وجهه.. شعر أن قدميه لم تعد تحتمل ثقل جسده.. لا بد أن أحداً شاهده و قام بالوشاية به إلى الشرطة.
ـ الشرطة .. افتح فوراً.
تقدم الوالد بسرعة نحو الباب وفتحه.. تدفق رجال الشرطة مسلحين بالبنادق والمسدسات.. مسدسات حقيقية، ليست كتلك التي لعبوا بها البارحة.. وخلال ثوان كان والده مقيداً بالأصفاد.
كاد أشرف يصرخ بهم.. قفوا.. أنتم مخطئون.. أنا المذنب.. لكن صوت والده سبقه متسائلاً:
ـ ما الأمر الآن؟!!.. لقد تركت العمل السياسي.. وأنتم تعرفون ذلك، فما الجديد؟!!
أشرف.. الذي اعتقد بداية، أن الأمر كله يتعلق بالقطة الشقراء المدفونة في الحديقة.. ذهل.. عندما سمع الضابط يرد على والده ساخراً:
ـ يبدو أن جرأتك أصبحت بلا حدود.. فلم تعد توزع المنشورات في الأحياء البعيدة تحت جنح الظلام.. بل تلقيها من الشرفة جهاراً نهاراً.. ها يابطل؟!
تمت