يوم الحصاد
الموقف مهيب ، والجو يكاد يحترق ، كل أهل البلدة يلتفون حوله واضعي أيديهم خلف ظهورهم ومحدقين بأعينهم اليه ، ومترقبين اللحظة التي سيؤمر فيها عامل المقصلة باسقاطه . يقتلني الفضول لأري لكن الازدحام يمنعني ، جاهدت وتسللت بصعوبة حتي رأيته بطرف عيني وهو مقيد اليدين ، نحيل الجسد ، ملابسه بسيطة ، وملامحه بها طيبة أهل الريف . يحرك فمه والدموع تذرف من عينيه كأنه يناجي أحد لا يراه الحاضرين .
المرج يذداد في المنطقة من فئة قليلة يجوبون الشوارع مسرعين وبين التجمع محذرين " اياكم أن تفعلوا هذا الظلم العظيم وهذا الجرم الفادح " . تأكد لدي أن هذا اليوم هو يوم اعدامه وخاصة عندما رأيت الواقفين بالصف الأول من نبلاء البلدة ، وصوت الرجل الذي يتعالي " اليوم هو اليوم الذي وعدتك به لتعلم الآن أن لا قوة تستطيع أن تخلصك مني اليوم ، ستعدم وبأمري . ينظر اليه الشاب بنظرة استسلام لأمر الله فمن مع الله لا كبير عليه . ويتوجه بنظرة الي كل الواقفين حوله بنظرة أخيرة وكأنه يقول لهم " وداعا ، ظلمت وشاركتم في ظلمي ، ظلمت أمامكم وأنتم تتفرجون ، تعلمون الحقيقة لكنكم لا تنطقون ، وداعا .....لكن للجميع لقاء.... عند العادل ، خير الحاكمين .
عذبتني نظراته ، لكن لم أفهم ؟؟ ضاق صدري وكأن حملا ثقيلا وضعه عليه بنظرته التي اختلستها من بين أكتاف الواقفين . جريت صوب الشارع لأسأل من يجوبون الشارع عن الحقيقة وأفهم . لم أجد أحد منهم أحد . ظننت أنهم قد ذهبوا الي هناك ، رجعت مسرعا لأجد الوقت قد فات ، لقد تم اعدامه . ظلت أسأل العائدين من المشهد فلم يتكلموا ، أهز بأكتافهم ... بعضهم يبكي وبعضهم ماض في طريقه كأنه يسير بمفرده في تيه لا حدود له وليس به مخلوق .
حل الظلام علي البلدة ، وليل بعد ليل باتوا يحملون هم ما سيجدوه في صباحهم ، وصارت الكوارث عليهم كسيول مطر غاضب ، وكثرت الألغاز والاشاعات ، فظل يردد هذا : والله لقد رأيته بالأمس يمر من شارع داير الناحية ويرتدي سترة سوداء وبيده بندقية بروحين ، ويردد هذا قد أحرق بيني الأسبوع الماضي ، حتي أحد المجانين الذين كثر عددهم منذ اعدام الشاب يتوعده ويظل يردد ...... لقد قتل ابني أمامي وعندما أجده سأفرغ هذه البندقية بصدره ويرفع عصاته مؤكدا فتيقن لديه أنها بندقية .
الجميع يحاولون الهروب من البلدة والعيش آمنين في أي مكان آخر وخاصة بعدما خرجوا من صلاة الجمعة وأرجع الشيخ سبب بلاءهم الي أنه يوم الحصاد " حصاد ما زرعوه " فتركوا أرضهم وبيوتهم ومحلاتهم وقرروا النجاة بأنفسهم فتشتتوا وبقي عدد بسيط منهم قد جعلوا من يوم اعدام هذا الشاب ذكري لا تنسي ، ومكان اعدامه أبقوه كما هو ، ووضعوا للحق والعدل أساسا بقلوبهم وضرورة لحياتهم وحياة أبنائهم .