من الدلالات إلى الإشكالية:
تعتبر اللغة في نظر العامة مرادفا للكلام، بالإضافة إلى اعتبارها مجموعة من الكلمات، كل كلمة تقابل شيئا معينا و تدل عليه، لكن إذا قمنا بمقارنة سريعة بين كل من اللغة و الكلام، سننتهي إلى أن اللغة ليست هي الكلام، فهذا الأخير فردي خاص و هو حدث زماني قابل للزوال و التجدد في حين أن اللغة من حيث هي أصوات و حروف و كلمات تبقى ثابتة و ذات طابع اجتماعي عام.
و هكذا يمكن القول أن الكلام شكل من أشكال اللغة و ليست اللغة كلها، ذلك أن التواصل يمكن أن يتم بأشكال أخرى غير كلامية إلا أنها لا ترقى إلى مستوى التواصل الكلامي.
إن تحديد معنى اللغة يتطلب أيضا الوقوف على الدلالة المعجمية لهذه الكلمة، ففي اللسان العربي نجد أنها مشتقة من اللغن و اللغو و تعني الكلام الغير مفيد، أما في لسان العرب لابن منظور فهي كلمات يعبر بها قوم عن أغراضهم، و يركز ابن منظور على البعد التواصلي للغة، و في اللسان الفرنسي نجد كلمة language من اللاتينية lingua التي تعنـي الكـلام و الخطاب، أما الكلمة اليونانية logos فلها معان متعددة كاللسان و الكلام و الخطاب و العقل، و يفهم معناها من خلال السياق الذي وردت فيه.
إن هذه التعاريف تبقى محدودة و غير دقيقة، و لهذا لابد من الوقوف علـى الـدلالة الفلسفية و العلمية للغة.
إذا عدنا إلى المعجم الفلسفي لالاند نجده يحدد معنيين للغة:
المعنى الخاص : هي وظيفة التعبير الكلامي عن الفكر داخليا و خارجيا.
المعنى العام : كل نسق من العلامات يمكن من التواصل.
أما إذا عدنا إلى معجم اللسانيات لاروس فإننا نجده يحدد اللغة: « هي القدرة على التواصل بواسطة نسق من العـلامات الصوتية "اللسـان" و هي قـدرة تتطلب وظيفة رمـزية و مراكز عصبية متخصصة وراثيا ».
نستخلص مما سبق:
1 : أن اللغة من حيث هي كلام لا يمكن أن تكون إلا خاصة بالإنسان، فهو الكائن القادر على إنتاج الفكر و التعبير عنه كلاميا.
2 : إن اللغة تعتمد العلامات و الرموز اللسانية و لا يمكن أن تمارس إلا داخل المجتمع.
3 : إن اللغة تتطلب مراكز عصبية و هذا يعني أن كل إنسان يكون قادرا مبدئيا على الكـلام و استعمال العلامات و الرموز اللسانية.
إن مفهوم اللغة يتخذ طابعا إشكاليا من خلال ما يتضمنه من مفارقات و تقابلات.
إن اللغة ذاتية و موضوعية فردية و اجتماعية فطرية و مكتسبة، كما أنها أداة لإنتـاج الفكـر و تبليغه في نفس الوقت.
من خلال ما سبق يتأسس الطابع الإشكالي لمفهوم اللغة، فهل اللغة ظاهرة خاصة بالإنسان ؟ أم أنها مشتركة بين الإنسان و الحيوان ؟ كيف يتم إنتاج الدلالة و المعنى في اللغة ؟ و ما الفرق بين العلامة اللسانية و الرمز اللساني ؟ هل تعتبر اللغة عن فكر جاهز أم عن فكـر يتشكـل باستمـرار، و كيف تقوم اللغة بوظيفة التواصل ؟ هل يتم ذلك بشكل شفاف و واضح أم أن اللغة ما هي إلا وسيلة للإخفاء و الكتمان ؟.
رجوع
اللغة كخاصية إنسانية:
إن التساؤل عما إذا كانت اللغة ظاهـرة خاصة بالإنسـان أم أنها مشتـركة ما بين الإنسـان و الحيوان نابع من ملاحظة بعض المظاهر التواصلية لدى الحيوان، الشيء الذي يدفع البعض إلى الاعتقاد بأن هناك لغة خاصة بالحيوانات و لكننا نحن بني البشر لا نستطيـع فهمها، و في هذا الإطار يبقى الموقف الفلسفي لديكارت أساسيا و جوهريا في حسم الخلاف حول هذه الإشكالية.
تحليل نص الكلام خاصية إنسانية لديكارت ص 13
أ- أطروحة النص:
إن الموقف الذي يتبناه ديكارت فيما يخص إشكالية هل اللغة خاصية إنسانية أم أنها مشتركة بين الإنسان و الحيوان . هو أن اللغة لا يمكن أن تكون إلا قدرة خاصة بالإنسان، هذه القدرة تتمثل في الكلام المرتبط في التعبير عن الفكر و هذه القدرة تنعدم عند الحيوانات.
هذا الموقف يتأسس على تصور ديكارت لمن هو الإنسان، إن الإنسان يتحدد في نظر ديكارت باعتباره جوهرا مفكرا قادرا على إدراك ما يجعل ذاته مختلفة و متميزة عن موجودات العالم الخارجي.
ب- كيف يدافع ديكارت عن الموقف الذي يتبناه ؟
اعتمد ديكارت آلية المقارنة بين الإنسان و الحيوان و استخلص من هذه المقارنة مجموعة من الحجج عزز بها موقفه، و تتمثل فيما يلي:
مهما بلغت غباوة الإنسان فإنه يستطيع أن يؤلف كلمات يعبر بها عن (موقفه) أفكاره في حين مهما بلغ الحيوان درجة عليا في سلم التطور فإنه لا يستطيع أن يفغل ذلك.
يقارن ديكارت بين الببغاء و قدرته على النطق و بين الإنسان، و يلاحظ أن هناك فرقا جوهريا بينهما، و يتمثل في أن الإنسان يعي ما ينطق به في حين أن الببغاء يفعل ذلك دون وعي، فالإنسان يستطيع أن يبتكر نسقا تواصليا إما في شكل إشارات أو علامات صوتية في حين أن الحيوانات لا تستطيع فعل ذلك.
إن اللغة في نظر ديكارت ترتبط بالفكر و بالعقل و الحيوانات لا عقل لها و بالتالي لا لغة لها، فكل ما تستطيع الحيوانات أن تفعله هو أن تعبر حركيا عن انفعالاتها الطبيعية.
ماذا نستخلص من هذا النص ؟
نستخلص مما سبق أن اللغة في نظر ديكارت لا يمكن أن تكون إلا ظاهرة خاصة بالإنسان ذلك أنه الكائن الوحيد القادر على التفكير و ممارسة مختلف العمليات الذهنية التي تنتج من خلالها الدلالة و المعنى التي تتوقف على القدرة على الإبداع.
إن هذا الموقف الديكارتي يتماشى مع التعريف الخاص الذي قدمه لالاند للغة، لكن لو انطلقنا من التعريف العام الذي يعتبر اللغة كل نسق من العلامات يمكن من التواصل، هل سننتهي إلى نفس النتيجة التي انتهى إليها ديكارت ؟
إن الإجابة عن هذا السؤال تقتضي القيام بمقارنة بين التواصل الإنساني و التواصل الحيواني.
إن التواصل الحيواني يتخذ شكلا غير كلامي "الإيحاءات، الحركات، تعابير حسية، الأصوات" موضوعه واحد و محدد ينتج عنه سلوك و هو غير قابل للإرسال و إعادة الإرسال إلا بعد المعـاينة و التحقق: إن التواصل الحيواني خال من الإبداع لأنه يقوم على البرمجة الوراثية.
أما التواصل الإنسـاني فيمكن أن يكون كـلاميا أو غير كـلامي و مواضيعه متعددة و يمكن أن ينتج عنه إما سلوك أو حوار، في حين أن التواصل الحيواني قائم على الإشارة أو الحركة و من ثم ينتج عنه سلوك فقط، إن التواصل الإنساني متعدد المواضيع، قابل للإرسـال و إعادة الإرسال، كما أنه يقبل التجزيء إلى وحدات صوتية (فونيمات) و وحدات دلالية قابلة للتفكيك و إعادة التفكيك، أما التواصل الحيواني فموضوعه واحد يرتبط بما هو غريزي "الغذاء، العطش، التوالد" كما أن الحركة أو الإشارة تتخذ معنى إجمالي لا يقبل التفكيك أو التجزيء.
نستخلص مما سبق أن التواصل الإنساني يمكن أن يتخذ طابعا غير كلامي و لكنه يبقى محدودا و إن كان مجال استعماله واسعا و يتطلب شروطا محددة لابد من توفرها حتى تتم عملية التواصل اللغوي، و لهذا صار الشكل اللغوي الكلامي هو الشكل الأساسي للتواصل عند الإنسان، لأنه لا يخضع لأية شروط و يوفر ما لا توفره أشكال التواصل الأخرى، و لهذا صار التواصل الإنساني يقوم على التواصل أو الأسماء أو ما يسميه علماء اللغة بالعلامات و الرموز اللسانية.