تقديم:
كلمة لغة مشتقةّّّّّّّ، في اللغة العربية، من اللغا أو اللغو ويعني الكلام الفارغ غير المفيد، كما تعني مجموعة من الأصوات التي يعبر بها أفراد مجتمع معين عن حاجاتهم وأغراضهم. كما أن كلمة langage الفرنسية مشتقة من الكلمة اللاتينية lingua التي تفيد الكلام واللسان. ويتبين من هذا أن الدلالة المعجمية لكلمة "لغة" تجعلها ترتبط بالكلام.
والملاحظة المباشرة تؤكد أن الكلام فعل صوتي فردي يتم ويتلاشى في الزمان، بينما تظل اللغة مجموعة من الكلمات والأصوات والقواعد الثابتة، التي من خلالها يتحقق فعل الكلام، وبالتالي هي التي تمكن مجتمعا من التواصل وإنتاج المعرفة، ويتأكد في الوقت نفسه أن عملية التواصل يمكنها أن تتم بطرق أخرى غير الكلام : كالحركات، والإيماءات الجسدية، والعلامات، والرموز. إن اللغة ـ إذن ـ ظاهرة يمكنها أن تتخذ صورا صوتية فردية، أو صورا كونية، يمكن بواسطتها أن يتفاهم سائر أفراد المجتمعات.
كما أنها ظاهرة معقدة يمكن أن تكون موضوع دراسات متعددة في آن واحد (كالفسيولوجيا، والسوسيولوجيا، والأنثروبولوجيا، والسيكولوجيا، واللسانيات …الخ). فاللغة ظاهرة إنسانية/اجتماعية قابلة لأن تدرس من عدة زوايا بناء على طابعها المتنوع، فقد تدرس اللغة –اختصارا- من ستة زوايا كما يلي:
1) الزاوية اللسانية (Linguistique): وهي تستهدف تشريح اللغة على أربع مستويات: أولها المستوى الفونولوجي (Phonologique) ويقصد تحديد الوحدات الصوتية (الفونيمات Phonèmes) والأنساق الفونولوجية الخاصة بكل لغة على حدة. وثانيها المستوى الدلاليSémantique)) ويقصد تحديد دلالة الكلمات ومعاني الألفاظ (المورفيمات Morphèmes) التي تتركب منها الجمل داخل لغة ما. وثالثها المستوى التركيبي (Syntactique أو Syntaxique) ويهدف إلى ضبط القوانين والقواعد النحوية والصرفية الإعرابية التي تحكم تركيب الجملة في لغة معينة. ورابعها المستوى التداولي (Pragmatique) وهو يهتم بوظائف اللغة داخل العملية التواصلية وكيفية تداولها داخل الجماعة/المجتمع.
2) الزاوية الفيزيائية (Physique): وهي تهتم بدراسة الذبذبات أو الموجات الصوتية (Ondes Sonores) المنبعثة من المرسل إلى المرسل إليه، أي دراسة اللغة كفعل مادي خارجي محسوس قابل للملاحظة والتجريب والقياس والتكميم.
3) الزاوية الفيزيولوجية (Physiologique): وهي تدرس الأحداث الفيزيولوجية التي تطرأ على أعضاء التصويت (Organes de phonation) عند المتكلم وأعضاء الاستماع (Organes d'Audition) عند المستمع على اعتبار أنه ليس للغة أعضاء خاصة في جسم الإنسان تؤدي وظيفتها بل هي تستعير من الجسم أعضاء بواسطتها تلقي الرسالة أو تتلقاها. ومن بين أعضاء التصويت/الإرسال نجد التجويف الفمي والأسنان والشفاه والقصبة الهوائية والحبال الصوتية والرئتين… ومن بين أعضاء الاستماع/ الاستقبال نجد الأذنين الداخلية والخارجية والطبلة والألياف العصبية…أضف إلى ذلك المنطقة الخاصة بالسمع على مستوى الدماغ.
4) الزاوية السوسيولوجية (Sociologique) : وهي تهتم بوظائف اللغة داخل المجتمع على اعتبار أنها أساس التواصل الاجتماعي وأنها ظاهرة ومؤسسة اجتماعية/جماعية/ مجتمعية، فلا مجتمع دون لغة كما أنه لا لغة دون مجتمع وبالتالي لا مجتمع دون تواصل كما ترى جوليا كريستيفا .
5) الزاوية السيكولوجية (Psychologique) : وهنا ينصب الاهتمام على مختلف العمليات التي تطرأ داخل الدماغ البشري من قبيل: كيفية اكتساب اللغة، وكيفية الترابط الذي يتم داخل الذهن البشري بين الكلمة ومضمونها أو بين الدال والمدلول، وكيفية تكون الذات المتكلمة، وكيفية إنتاج الدلالة المبلغة (الرسالة) و كيفية فك رموزها…الخ.
6) الزاوية الفلسفية (Philosophique) : وهي تلامس كل ما سبق ذكره بنظره نقدية –تقويمية- تقييمية.
هكذا تبرز التساؤلات الأساسية حول اللغة:
· كيف يمكن حصر الظاهرة اللغوية في الإنسان؟ ما الذي يجعله كائنا مفكرا ورامزا؟
· ما علاقة اللغة بالفكر؟ هل يمكن التفكير بدون كلمات؟
· هل اللغة منظومة قواعد ومبادئ تعمل باستقلال عن مؤسسات المجتمع وقيمه، أم أنها تحمل سلطة محايثة لها؟
اللغة خاصية إنسانية
هل اللغة خاصية إنسانية؟ كيف نفسر وجود اللغة عند الإنسان دون غيره؟ ثم ألا يمكن الحديث عن لغة لدى الحيوان؟ وأخيرا ما هي مميزات التواصل الإنساني بواسطة اللغة بالمقارنة مع التواصل الحيواني؟
ينطلق ديكارت من قناعة مفادها أن الإنسان وحده الكائن الناطق أو بالأصح الكائن الرمزي (Symbolique) الذي يستخدم اللغة المنطوقة/المكتوبة/الحركية للتعبير عن أغراضه ومشاعره وأفكاره… وأساس حضور اللغة (بمفهومها هذا) عند الإنسان هو وجود الفكر لديه ، كما أن علة غيابها عند الحيوان هي افتقاره إلى الفكر. ودليل ديكارت على هذا هو أن الإنسان مهما بلغ به النقص يستطيع استخدام العلامات للتعبير عن أفكاره (كالصم البكم الذين يخترعون علامات وحركات لهذا الغرض) ، في حين أن الحيوان مهما بلغ من الكمال لا يستطيع استعمال اللغة (فنطق الببغاء مثلا ليس لغة لأنه مجرد تعبير عن انفعال إشراطي) . وبهذا تكون عبارة : "الإنسان حيوان عاقل" مرادفة لعبارة "الإنسان حيوان ناطق" ، إذ أن العقل/ الفكر أساس النطق/ اللغة . فلا لغة دون فكر أو كما قالت العرب «اللغة دالة الفكر».
إن ما يدعى لغة حيوانية لا يعدو أن يكون حركات طبيعية لا تمثل في نهاية المطاف سوى ردود أفعال غريزية أو قابلة للبرمجة عن طريق الترويض ومن ثم قابلة للتوقع أو أنها استجابات آلية لمثيرات ودوافع. بدليل أن أكمل الحيوانات خلقة وأكثرها ذكاءا وأقدرها على إصدار أصوات كالببغاء لا تنطق نطقا يشهد أنها تعي ما تقول، ويظل "أداؤها اللغوي" دون مستوى أداء أغبى الأطفال أو مستوى الصم والبكم الذين حرموا أعضاء النطق لكنهم قادرون مع ذلك على ابتكار علامات يجعلون بها أفكارهم مفهومة. إن اللغة إذن وظيفة التعبير عن الفكر ودلالة على الوعي الذين ينفرد بهما الإنسان من منطلق كونه مركبا من جوهرين: الجسد وخاصيته الامتداد ثم النفس وخاصيتها التفكير. أما الحيوان فلا يملك غير الحركات الطبيعية أو الإنفعالات.
لقد أبان ديكارت أنه يمكن اعتبار الأصوات التي تصدر عن الحيوان مجرد استجابات انفعالية لمؤثرات مرتبطة باللذة أو الألم. فالصوت المشروط باللذة أو الألم لا يمكن اعتباره إلا فعلا منعكسا شرطيا وليس تواصلا. إن اللغة ليست ظاهرة فسيولوجية، لذا يمكن القول بأن الحيوان لا يملك عقلا، ومن ثمة فهو غير قادر على استعمال اللغة.
أما إميل بنفنيست، فيستند على نتائج علم الحيوانات (Zoologie) من جهة والسيميولوجيا (Sémiologie) من جهة ثانية ليقر بأن الحيوانات كذلك تتواصل إلا أنها لا ترقى إلى نفس مستوى التواصل اللغوي عند الإنسان. فبالاعتماد على بعض التجارب التي أجريت على النحل، بين بنفينست أن النحلة تستطيع التواصل في إطار شروط فزيائية معينة، إلا أن هذا "التواصل" هو عبارة عن رقصات لا تستدعي الحوار: فلا يمكن لنحلة أن تعيد إنتاج رسالة نحلة أخرى (غياب الإرسال المجدد)، وموضوع الرسالة مرتبط دائما بشروط موضوعية ينحصر في مكان وجود الغذاء، لأن لغة الحيوان لغة نمطية، ومرتبطة باستمرار بدوافع غريزية. لذا لا يمكن أن نجد خلافا بين رسالة نحلة وأخرى، إلا فيما يخص متغيرات مرتبطة بالمكان. وأخيرا فإن لغة النحل لا تقبل التحليل (التفكيك) إلى عناصر وأجزاء صغرى نظرا لمحدودية مكوناتها. إن لغة النحل هذه لا تعبر فعلا ولا يمكنها أن تعبر سوى عن عدد محدود من المضامين بسبب محدودية عدد التأليفات والتنويعات الممكنة التي تقبلها لغة الرقصات، كما أنها لا تسمح بقيام حوار إذ تظل الرسالة في اتجاه وحيد دون استجابة لغوية من المتلقي، ودون إمكانية نقلها إلى طرف ثالث، كما تشترط الحضور الفعلي للموضوع الخارجي المشار إليه. وهذه القيود كلها تنفلت منها اللغة الإنسانية.
الجدول أدناه يبين الاختلاف بين التواصل الإنساني والتواصل الحيواني، حسب بنفينست: